التجارة الحلال في الإسلام.. أصلُ الكسب الطيب

إعداد/ فريق التحرير

البائع في السوق

(رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى) – أي طالب بدينه. البخاري.

التجارة نوعٌ من الكسب الطيب الذي حث عليه الإسلام وأمر به، فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ: أي الكسب أطيب؟ فقال: (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور).

وهي وسيلة من وسائل الكسب المشروع، حتى أن القرآن يطلق عليها وصفًا جميلا، يقول تعالى: (…يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل:20) فسمى طلب الرزق عن طريق التجارة ابتغاء من فضل الله. ويقول أيضًا: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ…) (البقرة:198).

وهذه الآية نزلت في موسم الحج، أي حتى في أثناء الحج يجوز للإنسان أن يبيع ويشتري، وقد كان المسلمون يتحرجون من ذلك قبل نزول الآية، ولكن هذه الآية رفعت عنهم الحرج، وأباحت لهم التجارة في هذا الموسم العظيم.

وقال تعالى في بيان مشروعية التجارة أيضا: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ” (النساء: 29) أي: لَا تَتَعَاطَوُا الْأَسْبَابَ الْمُحَرَّمَةَ فِي اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ، كالربا والقمار، لَكِنَّ الْمَتَاجِرَ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي تَكُونُ عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَافْعَلُوهَا وَتَسَبَّبُوا بِهَا فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ.(انظر تفسير ابن كثير).

مجالات التجارة في الإسلام

لم تحدد الشريعة الإسلامية مجالات تحل فيها التجارة دون غيرها، ولكنها وضعت ضوابط أساسية.. وجعلت مجال التجارة في الإسلام هو مجال الطيبات: قال تعالى: “وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ” (الأعراف:157)، والطيبات هي الأمور المستحسنة في ذاتها، من أطعمة طيبة مريئة، هنيئة، لَا تفسد الأجسام ولا تضر العقول، ولباس حسن من غير إسراف ولا مخيلة، ولذَّات طيبة في حدود الخُلق والمروءة، وتصرفات طيبة لَا اعتداء فيها، ولا نكث وخيانة، وغير ذلك مما هو طيب في ذاته، وحصل عليه بطريق طيب أحله الله تعالى ولا اعتداء فيه ولا اغتصاب.

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ” وهي الأشياء الخبيثة في ذاتها التي تضر الأجسام، كالخنزير والميتة والدم المسفوح أو تضر العقول كالخمر، أو تلقي بالعداوة بين الناس كالميسر والبغضاء أو الاعتداء على حق غيره بالسرقة والاغتصاب أو القتل، فكل هذه خبائث تدخل في باب الفحشاء والمنكر والبغي، وكذلك أكل أموال الناس بالباطل كالربا ونحوه.

شروط التجارة الحلال

أولا: ذكر الله تعالى عند دخول السوق: ورد في الحديث عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة) رواه الترمذي وابن ماجه.

ثانيا: أن يتاجر في المباح، ولا يتاجر فيما يحرم شرعًا.

ثالثا: ألا يغش ولا يخون فقد قال النبي:(من غش فليس منا) رواه مسلم وغيره.

رابعا: ألا يحتكر، لأن الاحتكار حرام. فالنبي يقول (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم وأبو داود .

وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت. ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين: “إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ” (القصص:8)

خامسا: ألا يحلف كاذبًا، بل يتجنب أن يحلف حتى ولو كان صادقًا بقدر الإمكان، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم اليمين الكاذبة باليمين الغموس، أي أنها تغمس صاحبها بالإثم في الدنيا وبالنار في الآخرة، ولا ينظر الله إلى صاحبها يوم القيامة وهي تترك الديار بلاقع، وتخرب البيوت – والعياذ بالله.

ومن آداب البيع والشراء ودلائل الصدق فيه عدم الإكثار من الحلف؛ بل عدم الحلف مطلقًا؛ لأن في ذلك امتهانًا لاسم الله -تعالى-، قال –تعالى: “وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ” (البقرة: 224)، وقال – صلى الله عليه وسلم : (والحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) متفق عليه.

سادسا: ألا يغالي في الأسعار، كأن تحدد الحكومة السعر، ويزيد التاجر على التسعيرة، أو يستغل حاجة المسلمين إلى السلعة فيرفع ثمنها عليهم، ليربح أرباحًا فاحشة أكثر مما يجوز.

إن رفع الأسعار على الناس بهذه الطريقة يعتبر جريمة، لأنه يسبب ضيق الحياة عليهم وكثير من الناس دخلهم ضئيل وأحوالهم المعيشية سيئة، ولهذا روى معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته، حيث قال للناس من حوله: أجلسوني حتى أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسوه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة) فقيل له: أسمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: غير مرة ولا مرتين (رواه أحمد). أي أنه عليه الصلاة والسلام كرر ذلك مرارًا لعظم خطر هذا الأمر.

سابعا: ينبغي أن يحرص التاجر الذي يريد إرضاء ربه على أن يزكي ماله، فيقوِّم بضاعته كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر أي 2.5% ويدخل في ذلك الأموال السائلة، و السلع التجارية التي عرفت قيمتها.

ثامنا: إيفاء الكيل والميزان: فقال تعالى: “وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ” (الأنعام :152)، وقد حرم الله سبحانه وتعالى تطفيف الكيل والميزان فيقول الله عز وجل: “وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” (المطففين:1 – 6).

تاسعا: يجب على التاجر المسلم ألا تشغله تجارته عن واجباته الدينية.. عن ذكر الله، عن الصلاة، وعن الحج، عن بر الوالدين، عن صلة الأرحام، عن الإحسان إلى الناس، عن حقوق الأخوة في الإسلام، وحقوق الجيران، وهذا التذكير يوجه للتجار خاصة، لأن الغالب أن يستغرق التاجر في المادة، ويعيش في دوامة الأرقام والحسابات، ولا يفكر صباحه ومساءه إلا في الكسب والمرابح، وما دخل خزانته وما خرج منها.. وهذه هي الخطورة..

ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء) هذا التاجر الذي يلتزم الأمانة والصدق في بيعه وفي شرائه، وفي سائر معاملاته، يكون يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء. وقد ورد في حديث آخر: (الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا).

هذه صفات التجار الذين يستحقون أن يكونوا في رفقة النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة، وحسن أولئك رفيقا، إنهم لا تلهيهم ولا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، كما وصف الله المؤمنين من عباده بقوله: “رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور:37،38)

 وإذا كان ما سبق هو شروط التجارة الحلال بشكل عام، فإن هناك آدابا على البائع أن يتحراها ويتحلى بها:

  • السماحة في البيع و الشراء:

وذلك بأن يتساهل البائع في الثمن والمشتري في المبيع، والتساهل في المعسر بالثمن فيؤجل إلى وقت يساره، ومما جاء في الحديث: (رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى) – أي طالب بدينه. البخاري.

  • الصدق في المعاملة:

بأن لا يكذب في إخباره عن نوع البضاعة ونفاستها ونحوه، قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي.

  • الإكثار من الصدقات:

عسى أن يكون ذلك تكفيرًا لما قد يقع فيه من غش أو غبن أو سوء خلق أو ما إلى ذلك، فلقد روى قيس بن أبي غرزة -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن نسمى السماسرة، فقال: (يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة) -رواه الترمذي- يعني أخلطوا.

  • الكتابة والإشهاد:

فإنه يستحب ذلك لقوله –تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ” (البقرة: 282)، وقوله: “وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ” (البقرة: 282)، ففي ذلك مزيد ضمان للحق وتمتين للثقة والتعاون بين المسلمين، قال –تعالى: ” وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ” (البقرة: 282).

  • إنظار المعسر:

  • فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ)  البخاري.

فالتاجر الذي لا تلهيه تجارته عن واجباته الدينية، الذي يزكي ماله، والذي يلتزم حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يكون فيه الجشع الذي يدفعه إلى احتكار السلعة أو إغلاء الأسعار على الناس، أو الغش أو الحلف كاذبًا،  أو التعامل ببيع الحرام.. التاجر الذي يلتزم حدود الله ولا يخرج عنها يكون يوم القيامة مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

______________________________________

المراجع:

مواضيع ذات صلة