التسبيح.. تمجيدُ الكونِ لسلطان الخالق

أ/ فيصل الزامل
التسبيح

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ…” (سبأ:10)

التسبيح عبادة مختلفة عن الاستغفار.. الذي هو “طلب”، أما التسبيح فهو تنزيه لله عز وجل، و تقدير للخالق العظيم الذي تطلب منه، لهذا يحمل في طياته التعبير عن التقدير الكبير لحجم سلطان الرب عز وجل و اتساع ملكه و جلال عظمته، “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (الزمر:67) و ربما تتقدم بعض الخلائق على الانسان أحيانا في إدراكها لتلك العظمة، كالجبال الشامخات و السماوات الفسيحة التي تسبح بجلال الرب الأحد قال تعالى: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” (الإسراء:44).

 يقول ابن كثير في هذه الآية: تقدسه السماوات السبع والأرض ومـن فيهن‏، أي‏ من سائر المخلوقات‏، وتنزهه وتعظمه وتجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون‏،‏ وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، و هي أمور تسمو عن مجرد الطلب و السؤال، إنه الإعجاب و الاحترام التام لمن كان هذا ملكه و تلك عظمته، و هذه هندسة بنائه للدواب و الطير و المنظومة البيئية بأسرها، و من انشغل بالتعبير عن هذا كله عن الطلب، فقد نال حظوة عند رب جليل يعرف دخائل النفس، ففي الحديث القدسي “من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته كأحسن ما أعطي السائلين“، و هذا الترتيب الصحيح للأمور يرفع من قدر الطلب، يقول عمر رضي الله عنه (إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء) فمن أحسن إعداد الطلب بتسلسله الصحيح، ضمن الإجابة المنشودة.

التسبيح وظيفة الكون كله

فالجبال لا تطلب لأنها –أساسا- لم تذنب بذنب تستغفر منه، ولكنها تسبح خالق الكون علما منها بعظمته و قوته، و بسبب هذا العلم، رفضت تحمل الأمانة “إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” (الأحزاب:72).

وقال تعالى: “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ” (سبأ:10) يقول جلّ ذكره، ولقد أعطينا داود منا فضلا وقلنا للجبال (أَوِّبِي مَعَهُ)، أي سبحي معه إذا سبح، والخلائق كلها تفعل مثل ذلك.

 و من قدر علم الجبال أن القرآن الكريم بين استعظامها لقول الانسان أن لله ولد، جل و علا “تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ. أن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً” (مريم:90)..

التسبيح

“… وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ…” (الإسراء:44)

و جاء في قوله تعالى “… وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ…” (الإسراء:44) أي‏: وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏، و لم يقل لا تسمعون.. والمعنى مُغاير؛ فهناك مدارك تتجاوز قدرات الانسان لدى تلك المخلوقات، ألسنا نقول عن الطيور أنها تشعر باقتراب الزلازل فتطير و عن غيرها أنها تشعر باقتراب الفيضان من البحر او النهر فتركض إلى المرتفعات؟، فكذلك التسبيح الذي لا نعرفه، إلا أن تلك الخلائق تعرفه حق المعرفة “… كل قد علم صلاته و تسبيحه…” (النور:41).

و تسبيح الطير مسموع أكثر من غيره قبل طلوع الشمس و قبيل الغروب، امتثالا لقوله تعالى “وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا” (الأحزاب:42) وهناك صور لا تنتهي من تسبيح الدواب، بمختلف الأصوات المسموعة و غير المسموعة.

و قد جاء في حديث أبي ذر‏ (أن النبي أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيحا كطنين النحل) وقال الإمام أحمد‏ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل‏، فقال لهم (اركبوها سالمة‏، ودعوها سالمة‏، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق‏، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله تعالي‏)‏.. صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم .

إن استشعار وجود زخم حياتي في هذه الجمادات وتلك الخلائق من غير البشر يوجد صلة ما مع تلك الخلائق في كون متوحد لرسالة جامعة تضم الجميع، حتى وإن سخر الله بعضا منها للإنسان.

ثمرات التسبيح

 جرت خصومة بين الحسين بن علي رضي الله عنهما و رجل ادعى عليه كذبا في حق من الحقوق، فلما مثلا أمام القاضي دعي الخصم الى حلف اليمين بما يدعيه على الحسين، فلما هم بالحلف قال له الحسين: (تحلف كما أقول لك) و قال (قل: أقسم بالله أن لي على الحسين كذا، و كذا) فلما فعل الرجل، سقط ميتا، التفت القاضي إلى الحسين مستفهما فقال (خشيت أن يقول: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، و يمجد الله عز وجل، فيحلم عليه)، إنه التمجيد و التسبيح يا سادة، يقرب منا حلم الله و لطفه، و فضله العميم.

فلنكثر من التسبيح، آناء الليل و أطراف النهار “وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ” (آل عمران:41)، فليس للتسبيح وقت محدد “إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا” (المزمل:7) ذلك أن التسبيح  مُعين على الصبر، و هو وسيلة للوصول الى الرضاء الكامل “فَاصْبِرْ على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ” (طه:130).

– و هو طريق لنيل عناية الله عز وجل “وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ” (الطور:48-49)

– و بسبب حجم وقدر التسبيح صار واجبا عند الركوع (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)، و من سها عن التسبيح في الركوع لزمته سجدة السهو.

– و هو مما يمحو الله به خطايا المجالس: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) رواه الترمذي.

– و هو رفيق الانتصارات و الفتوح الربانية “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا” (سورة النصر) .

– و هو الجدار الحصين يحمي النعم، انظر الى أصحاب الجنة كيف يقولون: “قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ. قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ” (القلم:28-29) فصار التسبيح عملا بدنيا يعكس اعتقادا راسخا بحق الفقير في المال، و وجوب استثناء هذا الحق من مال الانسان المقتدر .

اللهم أنت السُّبوح، اللهم أنت القدوس، اللهم أنت رب الملائكة و الروح، جل شأنك .

__________________________________________

مواضيع ذات صلة