تاريخ النشر الأصلي 2019-06-24 01:51:53.
طه سليمان عامر
المسلمة الأوروبية تعيش ظروفا وأوضاعا مختلفة عنها في أماكن أخرى، ووفقا لتغيُّر المكان فإن معالجة مشكلات مسلمي أوربا بصورة عامة تتطلب حلولا ونظرا فقهيا وفكريا وتربوبا يراعى هذا الحال، ولقد سألني أحد القراء الكرام بعد مقال لي سابق بعنوان “متى ترتدي المسلمة الأوروبية الحجاب؟”، وقال: لماذا تخص المسلمة الأوروبية دون غيرها؟ وهل ارتداء الحجاب محل نقاش؟
قلت: لو تأملنا قليلا لعلمنا أن الفروق كثيرة وكبيرة، وقد أردنا تسليط الضوء على قضية نروم معالجتها في ضوء الظروف والتحديات التي تعترض المسلمة الأوروبية، وفي مقالنا الثاني نحدد خطوات وموجهات نحو التزام اللباس الشرعي وكيف تجيب المسلمة عن أسئلة الأوروبيين حول الحجاب بحكمة وحنكة، ونرصد بعض النماذج الناجحة من المسلمات اللائي نجحن في تحقيق المعادلة الصعبة في هذه القضية.
رعاية العرف في اللباس الشرعي
من دلائل سماحة الشريعة الإسلامية وسعتها في التشريع أنها نَصَبتْ أعلاما على الأحكام واضحة ومحددة، ثم تركت مساحة واسعة من التفاصيل التي تتجاوب مع أعراف المجتمعات وعاداتها لتؤكد صلاحية الإسلام لكل الأزمان والبيئات، وإذا شئنا التطبيق على مسألة اللباس الشرعي للمسلم والمسلمة فإننا سنجد أن الإسلام وضع الضوابط العامة للرجال والنساء فيما يلبسون، ثم ترك تفاصيل اللون والشكل والهيئة وفقا لعادات الناس وأذواقهم.
لهذا نجد من الضروري أن نراعي ذلك في أوروبا مع بناتنا عند تربيتهن على اللباس الشرعي، فقد ترتدي الفتاة في بيئة عربية مثلا لباسا ذا ألوان وشكل لا يناسب الفتاة هنا، بل قد لا يناسب ما تلبسه الفتاة في الشمال ما تلبسه في الجنوب، ولا نقصد هنا التفاضل، لقد شكا لي شاب أصرَّ والده على شراء قميص من لون كان مثار سخرية رفاقه الأمر الذي أنتج حالة رفض شامل لخيارات أبيه بعد ذلك ولو كانت صائبة، فما بالنا لو تعلق الأمر بفتاة كيف ستكون النتيجة؟ ما نريده أن يجمع اللباس بين الستر والأناقة والبعد عن الخيلاء، ثم بعد ذلك نترك للأذواق خياراتها، مع تذكير النفس بالاعتدال وحسن القصد واستقامة السلوك والعناية بتجميل الجوهر مع المظهر. ومن الجدير بالإشادة ما تبذله النساء في المؤسسات الإسلامية بأوروبا من جهود وأفكار مبدعة في ترغيب الفتيات في الحجاب من خلال:
– معارض الأزياء وأشكال الحجاب الذي يبدو بشكل أنيق وجميل.
– والحفلات التي يُقُمنها لكل فتاة تقرر ارتداء الحجاب.
التدريب على النقاش ورد الشبهات
تتعرض المسلمة الأوروبية لتساؤلات استفهامية واستفزازية وانتقادات بسبب لباسها الشرعي، وعلينا أن نُميز جيداً بين تلك الأسئلة ودوافعها، فليس كل سؤال يُقصد به النقد أو الإنكار، وعلينا أن ندرك أيضا أنَّ تَعجُّب بعض الأوروبيين لستر جسد المرأة المسلمة سوى الوجه والكفين مُتفهم، ذلك لأن القوم لا يتصورون قوة تجعل المسلمة تغطي مواضع زينتها إلا أن تكون قوة أرضية تتمثل في أب أو أخ مستبد أو زوج متسلط، فما الذي يجعل الفتاة في الحر الشديد أو تكون وحيدة وسط مجموعة مختلفة وإذا بها ملتزمة بلباس يغطي سائر بدنها – دون الوجه والكفين؟
وهنا يجب علينا أن نتحدث بهدوء، ونجيب عن تساؤلاتهم بعلم وحكمة دون انفعال. أما من يسأل استفزازا أو سخرية فيجب أن تتسم المسلمة بقدر عال من اللباقة والثبات الانفعالي وتقدير المواقف، فإذا لزم الأمر عند تجاوز الحدود فيجب عدم التفريط في الحقوق وعليها اللجوء للقانون. كما أرى أن تُعقد ورشات عمل وجلسات للتدريب على الردود المناسبة وفقا للمواقف التي تتعرض لها الفتاة. ولعلي أنصح بقراءة مقال ماتع قوي للأستاذ الباحث المدقق في الشؤون الأوروبية “حسام شاكر” وعنوانه: هل الحجاب رمز ديني وجنسي وأيديولوجي؟ ومن شأن المقال أنه يعطي شحنة نفسية وقدرة حوارية وحجة جدلية في هذا الموضوع. وعلى المؤسسات الإسلامية أن تقدم الدعم النفسي والإرشادي والحقوقي للمسلمة الأوروبية التي تواجه صعوبات وعقبات في دراستها أو عملها أو الاعتداءات المعنوية أو البدنية التي تتعرض لها في خضم حملات الكراهية المتزايدة.
التميُّز الدراسي والمهني والأخلاقي
يقول بعضهم: “لا لا، نحن لا نتحدث عنكِ أنتِ، فأنت مختلفة عن غيرك”. تتكرر تلك المقالة على ألسنة رجال ونساء في ألمانيا وأوروبا حينما ينتقدن الحجاب والمحجبات، فتقول لهم زميلتهم المسلمة المحجبة الناجحة الواثقة: وماذا عني فأنا محجبة ولم يمنعني الحجاب من التميز والنجاح فيكون الرد ما سبق! إذاً هناك صورة نمطية مستقرة في أذهان كثيرين عن الحجاب وأثره في تعطيل العقل وإغلاق مجال الفكر، لكن المشهد يتبدد مع المثال الحي الذي يرونه أمامهم، ومن هنا نؤكد أن التميز المهني والتفوق الدراسي والتألق الأخلاق السبيل الأكبر لانتزاع التوقير والتقدير للمسلمة المحجبة.
كلُّنا إيمان.. هكذا صرخن معا
قصةُ فتاةٍ ذات سبعة عشر عاما تعيش في جمهورية التشيك، هي المسلمة الوحيدة في مدرستها، قامت “إيمان” بأنشطة عديدة مع المجتمع، ولم يَرُقْ ذلك لليمين المتطرف، فقاموا بإرسال خطابات كثيرة جداً لمدير المدرسة يطالبونه فيها بطردها لأنها خطر -بزعمهم- على بقية الطلاب، فما كان من مدير المدرسة إلا أن وقف موقفاً مُشَرِّفاً نبيلاً، وقال كيف لي أن أطرد طالبة متميزة علميا وخلقيا مثلها؟! وقام زملاؤها بتصوير فيديو وهي تتوسطهم والجميع يتحدث في صوت واحد “كلنا إيمان”. وأراد دعاة الكراهية بها كيداً فردهم الله خائبين.
الأطفال والحجاب
يضيع الحق بين الإفراط والتفريط، وإنني أعتب على من يتعامل مع الطفلة الصغيرة على أنها بالغة فيوجبون عليها ما لم يأذن به الله، كما أعتب على من يتهاون في تعويد الأبناء على الواجبات الشرعية منذ الصغر، وسأذكر مشاهد سلبية تمثل كلا الجانبين. بينما كنت أستقل وسيلة مواصلات بمدينة فرانكفورت الألمانية إذ بطفلة صغيرة لا تتجاوز خمس سنوات ترتدي الحجاب والعيون ترقبها في تعجب وإنكار، فقلت ساعتها: كنت أرجو من والدها أن يكون أكثر حكمة من هذا، إنها طفلة صغيرة لماذا لا تعيش طفولتها مثل سائر الأطفال؟ لماذا نفتح معارك جانبية نحن في غنى عنها؟
قد ترتدي الطفلة الصغيرة الحجاب في الصلاة أو المسجد للتدرب عليه وكذلك بالمنزل بالوسائل التحفيزية التي تُرغب الفتاة منذ صغرها فيه، أما أن نصور الحال أمام مئات من غير المسلمين كما رأيت، فهذا ليس فَأْلُ خير. في شهر رمضان الماضي أطلَّت علينا وزيرة الاندماج في ألمانيا انيكريت فيلدمان-ماوتس التي طالبت بدراسة إمكانية منع الحجاب في المدارس الابتدائية، وقد سألتها صحفية عن عدد الحالات التي تم رصدها لفتيات محجبات في المدارس الألمانية. فأجابت.. ليس لدينا أرقام! وهكذا يتحول مسلمو أوروبا إلى ميدان للمزايدات غير النبيلة في سوق الانتخابات! ونحن هنا نرفض تصريحها ومسلكها، ولا نقبل أن يفرض علينا أحد شيئا أو أن يلقى إلينا دروسا في من منطق استعلائي، وفي نفس الوقت فإننا نراجع ونصحح المفاهيم في أوساط المسلمين بقناعة وإرادة حرة.
المشهد الآخر
هناك أمهات يتهاونَّ كثيرا مع بناتهن في اللباس والزينة، فترى أحيانا طفلة قد شارفت البلوغ ولا زالت تلبس ملابس غير مناسبة لعمرها فتبدو كأنها عارضة أزياء، أو نجمة سينمائية، فكيف أحدثها بعد ذلك عن الاحتشام في اللباس؟ قد يقول البعض إنها ما زالت صغيرة ولم تبلغ، فنقول: نحن لم نضيق واسعاً بل ننبه على أمرين:
الأول: أن التزام الأحكام الشرعية يتطلب التدريب والتعويد عليه منذ الصغر، وليس من المعقول أن أطلب من الفتاة التزام اللباس الشرعي فجأة دون تمهيد.
الثاني: خطورة الانسياق مع تيار “تسليع الأطفال” رويدا رويداً فها نحن نرى كيف يتحول الأطفال الصغار إلى سلعة تجلب الشهرة والمال ولا تجني إلا الشقاء في قابل الأيام، حيث تبدو عبر الملابس والمساحيق أكبر من عمرها، الأمر الذي يؤثر على صحتها النفسية والعقلية وحياتها الاجتماعية. وأنا أشير هنا إلى المبالغات التي تحدث وتغفل عنها بعض الأمهات، وخير الأمور ما لازَمَ الوسط.
——
* رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا. والمقال بتصرف يسير من “مدونات الجزيرة”.