تاريخ النشر الأصلي 2020-01-07 01:45:05.
د. رمضان فوزي بديني
بعد أن يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، وينادى بينهما بأنهم إلى خلود بلا موت، وبعد أن يتقين كل فريق من مصيره المحتوم، ويراه عين اليقين يدور حوار متبادل بين الفريقين، يرسمه القرآن الكريم في صورة بديعة ولوحة معبرة عن فرح أهل الجنة بفوزهم وتواري أهل النار خزيا من مصيرهم، وذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم.
أول هذه الحوارات التي ينقلها القرآن الكريم للفريقين قول الله تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} إنه سؤال السخرية والتهكم من أهل الجنة بعد أن تحقق لهم ما كانوا يؤمنون ويعتقدون، وما من أجله تعبوا ونصبوا وتحملوا في الدنيا الآلام والمكاره، وواجهوا الشيطان وحزبه حتى صدقهم الله وعده فأدخلهم جناته جنات الخلود.
لكن يأتي الجواب من أهل النار هزيلا منكسرا مقتضبا في كلمة واحدة معبرة عما يلحق بهم من الخزي والانكسار والندم {قَالُوا نَعَمْ}؛ فهم بعد أن كذبوا في الحياة الدنيا ولم يصدقوا، وأعرضوا ولم يتبعوا هاهم الآن يذوقون جزاء كل ذلك في النار؛ فلا يملكون جوابا إلا {نعم}، وبعد هذا المشهد الموحي المعبر عن حال كل من الفريقين، يسدل الستار بينها بهذا النداء العلوي {أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، ثم يعدد صفات هؤلاء الظالمين الملعونين {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ كَافِرُونَ}.
لكن الحوار بين الفريقين لا يتوقف هنا؛ بل يعود مرة أخرى كما صورته سورة الأعرف؛ فبعد أن يتذوق أهل النار ما هم فيه من أليم العذاب، ويبلغ بهم العطش والجوع مبلغهما يضطرون إلى اللجوء إلى أهل الجنة في طلب بائس {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ}، فيأتي الرد الصاعق والجواب القاتل من الطرف الآخر الذي أنفق كثيرا في حياته الدنيا وتعب ونصب وعطش، واليوم جاء وقت الحصاد، فيقول لهم: {إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، ثم يذكر بعض صفات هؤلاء الكافرين، بعد أن عدد صفات الظالمين منذ قليل، فقال: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
ومن حوارات يوم القيامة بين أهل الكفر وأهل الإيمان ذلكم الحوار الذي ترسمه لنا آيات سورة الحديد في قول الله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فالمؤمنون مزهوون بإيمانهم ونورهم، والمنافقون منكسرون ذليلون يلهثون وراءهم، يترجونهم أن يلتمسوا من بعض نورهم ما يستضيئون به في ظلماتهم {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}؛ فيأتي الجواب الذي يزيدهم انكسارا وخزيا، مذكرا لهم بافترائهم وظلمهم في الدنيا {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، وتكتمل الصورة المعبرة {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، ثم من خلف هذا السور يأتي نداؤهم الهزيل المتعلق بأي أمل {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}، فيأتي الرد الأخير قبل أن تتباعد المسافات وينقطع الصوت {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
ومن هذه الحوارات أيضا ما يأتي فيه الاعتراف بالذنب والتقصير على ألسنة المجرمين، حينما ترتهن كل نفس بما عملت وتؤخذ بأعمالها، إلا أصحاب اليمين الذي ضمنوا النجاة والفوز، يقول تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} فيأتي الاعتراف بالذنب حين لا ينفع الاعتراف ولا الندم {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}.
فأصحاب اليمين هنا يسألون المجرمين عن سبب دخولهم النار؛ فيردون عليهم بعد أن انكشفت أمامهم الحقائق واطلعوا على نتائج عملهم في الدنيا، فعددوا لهم أسباب دخولهم النار والتي أرجعوها إلى عدم الصلاة، وعدم إطعام المسكين، والخوض في الباطل وفيما نهى الله عنه، وكذلك التكذيب بيوم القيامة، وظللنا على هذا الأمر حتى أتانا اليقين وهو الموت الذي لا تنفع بعده شفاعة ولا إيمان.