حوارات القيامة بالقرآن (5).. بين الملائكة وأهل النار

د. رمضان فوزي بديني

ويستمر القرآن في عرض هذه السلسلة الممتدة من حوارات القيامة التي تناولنا منها فيما سبق: الحوار بين رب العزة وأهل النار، ثم بين أهل الجنة وأهل النار، ثم بين أهل النار بعضهم بعضا، ثم بين أهل النار وأعضائهم الجسدية، نتناول في هذه الحلقة حوارا جديدا وهو بين الملائكة وأهل النار.

فبعد أن يعرف أهل النار مصيرهم المشئوم، تحدث بعض الحوارات بينهم وبين خزنة النار الذين يلقون عليهم بعض الأسئلة من باب التقريع والتوبيخ والتنكيل، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من موضع من آياته المباركة، منها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}؛ فالسؤال هنا ليس حقيقيا؛ بل هو سؤال تقريري؛ ليستنطقوا هؤلاء المعذبين بالإجابة التي تحمل الكثير من الألم ومن الندم ومن الإقرار بالذنب، فيسألونهم: ألم يأتكم رسل من جنسكم أقاموا عليكم الحجة وحذروكم من هذا الشر المستطير؟، فيأتي ردهم باهتا يدل على ما هم فيه من الخزي والندم {قَالُوا بَلَى} اعتراف في غير وقته، ومع ذلك يحاولون تخفيف المسئولية عن أنفسهم بأن ما هم فيه بسبب شقاوتهم التي كتبت عليهم، مع إقرارهم بكفرهم حيث يستأنفون الكلام {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ فيأتي الأمر الرهيب الذي لا يملكون معه إلا التنفيذ من مجهول لم تحدده الآيات {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.. إنه المصير المستحق والجزاء العادل لمن تكبر عن آيات الله تعالى في الدنيا فأعرض عنها، وأخذته العزة بالإثم فلم يخضع لها؛ فهذا هو الآن ذليل حسير كسير لا يملك إلا الإذعان والخضوع للأمر العظيم.

وينقل القرآن حوارا آخر من حوارات يوم القيامة بين أهل النار بعد أن يستقروا فيها ويذوقوا شديد عذابها وتضيع آمالهم في التخلص من هذا العذاب الأليم فيتمنوا تخفيفه ولو لمدة يوم واحد {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ} فيأتي الرد المقرح المؤنب المذكر بالتفريط والتقصير في الدنيا {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فيأتي ردهم القصير {قَالُوا بَلَى}، فيأتي رد خزنة النار أشد ألما من نارها {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}.

ويلاحظ في هذه الآيات أن هؤلاء القوم فقدوا الأمل في أن يستجيب الله تعالى لهم؛ لذا يطلبون من خزنة جهنم التوسط لهم بدعاء الله تعالى بأن يخفف عنهم العذاب في حوارات يائسة، لكن يأتي رد خزنة جهنم متناسبا ومتناسقا مع حالة العذاب المفروضة على هؤلاء الأشقياء؛ فينتزعون منهم الاعتراف بالتفريط والتقصير في الدنيا، ثم يلقون الكرة في وجوههم مرة أخرى، فيأمرونهم بالدعاء الذي ليس وراءه إلا الضلال.

وفي موضع آخر يرسم القرآن صورة المجرمين وهم خالدون في العذاب غير المنقطع عنهم {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ومن أليم هذا العذاب يتمنون الموت ويطلبونه فلا يجدونه؛ حيث ينادون مالكا خازن النار {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}؛ أي ليقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه؛ فحالهم عبر عنه القرآن في مواضع أخرى مثل: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، وكما في قوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى}.

فيأتيهم الرد بعد ألف عام -كما في بعض الروايات- {قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}.. إنه الرد المحبط المخيب للآمال، ويلاحظ على كل هذه الردود أنها تذكر هؤلاء الأشقياء بفرصهم المتعددة التي فرطوا فيها في الدنيا.

حوارات التبكيت والإذلال

وفي موضع آخر يرسم القرآن صورة للنار وهي تكاد تتقطع من غيظها وحنقها على هؤلاء الذين تجبروا في الأرض وعصوا ربهم وكذبوا رسله {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، وتكتمل الصورة المزرية لهؤلاء العصاة المتكبرين بتوالي إلقائهم في جهنم أفواجا وراء أفواج، ومع ورود كل فوج يتكرر عليهم سؤال التبكيت والإذلال من خزنة النار {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، فيأتي رد كل الأفواج متفقا على الإقرار والاعتراف بالمسئولية {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} ثم يستطردون في توبيخ أنفسهم ووصمها بالجنون وعدم العقل؛ فالعاقل لا يورد نفسه هذا المورد الأليم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}.. إنه اعتراف في غير موضعه وفي غير وقته؛ حيث لن يفيد؛ فالله عز وجل فتح باب التوبة والاعتراف بالذنب في الحياة الدنيا، وأرسل الرسل والنذر والآيات العامة والخاصة حتى يفيق الإنسان قبل فوات الأوان؛ حتى إذا جاء يوم الحساب انقطعت الفرص وأصبح الشعار العام هو {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.

مواضيع ذات صلة