مودة ورحمة (3).. أحكام العقد وشروطه

إعداد: فريق تحرير موقع "المهتدون الجدد"

تحدثنا فيما سبق من هذه السلسلة عن مشروعية الزواج وحكمته، ثم تحدثنا عن أحكام الخطبة وآدابها، وفي هذه الحلقة سنتحدث عن أحكام العقد وشروطه.

وعقد الزواج يعد من أقدس العقود التي شرعها الله تعالى؛ إذ به تستحل الفروج، ويحل ما كان محرما قبل ذلك بين المخطوبين، ولذلك عبر القرآن عنه تعبيرا موحيا ودالا على أهميته، فسماه “الميثاق الغليظ”، وذلك في قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 20، 21).

تعريف العقد

العقد لغة: يعني الربط، يقال: عقد الحبل والعهد يعقده إذا شده.

قال صاحب لسان العرب: “العقد: العهد والجمع عقود، وهي أوكد العهود، ويقال: عهدت إلى فلان كذا وكذا وتأويله ألزمته ذلك.

والمعاقدة: المعاهدة، وعاقده: عاهده، وتعاقد القوم: تعاهدوا، والعقد نقيض الحل.

والعقد في البيع: إيجابه، وعقد اليمين: توثيقها، وعقدة النكاح: إحكامه وإبرامه” (انظر: لسان العرب، مادة عقد).

ومما سبق يتبين أن العقد لغة يطلق على الشد والربط والتوثيق والإحكام في الأمور الحسية والمعنوية.

العقد اصطلاحا: عرفه ابن عابدين بقوله: “العقد مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر، أو كلام الواحد القائم مقامهما: أعني متولي الطرفين” (حاشية ابن عابدين: 4/59).

أما عقد الزواج فعرفه شمس الدين الرملي بأنه “عقدٌ يتَضَمَّن إِبَاحَة وَطْءٍ بِلَفْظ إنكاح أَو تَزْوِيج أَو بترجمته” (شرح البيان: 246).

أركان عقد النكاح

يمكن اختصار أركان العقد فيما يلي:

أولا: وجود الزوجين الخاليين من الموانع، التي تمنع صحة النكاح كالمحرمية من نسب أو رضاع ونحوه، وككون الرجل كافرًا والمرأة مسلمة… إلى غير ذلك .

ثانيا: حصول الإيجاب، وهو اللفظ الصّادر من الولي أو من يقوم مقامه بأن يقول للزوج: زوجتك فلانة” ونحو ذلك .

ثالثا: حصول القبول وهو اللفظ الصّادر من الزوج أو من يقوم مقامه بأن يقول: “قبلت” ونحو ذلك.

شروط صحة العقد

أما شروط صحة العقد فيمكن إجمالها فيما يلي:

أولاً- التراضي:

عقد الزواج اختياري، ولا يجوز فيه الإكراه بوجه من الوجوه؛ وذلك أنه يتعلق بحياة الزوجين (الرجل والمرأة) ومستقبلهما وأولادهما؛ ولذلك فلا يجوز أن يدخل طرف من طرفي العقد مكرهاً.

أما بالنسبة للرجل فهذا مما لا خلاف فيه، وأما بالنسبة للمرأة فالأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها” (رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس). وفي رواية لأبي هريرة: “لا تُنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن”. قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: “أن تسكت” (رواه الجماعة).

وعن عائشة قالت يا رسول الله: تستأمر النساء في أبضاعهن؟، قال: “نعم”، قلت: إن البكر تستأذن وتستحي. قال: “إذنها صماتها” (رواه البخاري ومسلم).

وهذه الأدلة جميعها نص في أنه لا سبيل على المرأة بإجبار في النكاح، ثيباً كانت أو بكراً، وأن الفرق بينهما إنما هو الفرق في صورة الإذن فالثيب -عادة- لا تستحي من الكلام في الزواج، ولذلك فهي تخطب إلى نفسها أو ترضى وتأمر وليها بولاية عقد نكاحها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “تُستأمر” أي يطلب أمرها. وأما البكر فالغالب عليها الحياء؛ ولذلك تُخطب من وليها والولي يستأذنها، فإن أذنت بمقال أو بسكوت يدل على الرضا تزوجت وإلا فلا.

ثانيا- الولي:

وليُّ المرأةِ شرط لصحَّةِ النكاح، فإذنُه فيه معتبَر ولا يصحُّ نكاحٌ إلَّا به، وهُو مذهبُ جمهور العلماء، ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وأهلِ الظاهر، خلافًا لأبي حنيفة. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: “لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ”(أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ –ثَلَاثًا- وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَإِنَّ السُّلْطَانَ وَليُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ” (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه).

ثالثا- الشاهدان:

لا بد لصحة العقد أن يشهد عليه شاهدان عدلان، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: “لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ” (أخرجه ابن حبان والبيهقي، وصححه الألباني)، وبهذا أفتى ابن عباس وعلي وعمر رضي الله عنهم، ومن التابعين ابن المسيب والأوزاعي والشعبي، ومن الأئمة الأربعة أحمد والشافعي وأبوحنيفة. وهذا القول هو الموجب لحفظ الحقوق عند كل من الرجل والمرأة، وضبط العقود، ومن ألزم العقود بالضبط عقد النكاح ووقوعه بغير شهود مدعاة للفساد والتلاعب أو النسيان وضياع الحقوق ، ولذلك أصبح وكأنه معلوم من الدين بالضرورة، ولا نرى أن يخالف في هذا أحد من أهل العلم..

رابعا- المهر (الصداق):

اشترط الشارع الحكيم لصحة عقد النكاح أن يكون هناك مهر مقدم من الرجل للمرأة. وهو هدية للمرأة وتطييب لخاطرها، ولذلك فهو ملك لها، ويجوز لها أن تتنازل عنه كله أو شيء منه لزوجها كما قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (النساء: 4)، وهذه الآية جمعت أحكام الصداق؛ فهو نحلة أي هدية، وعطية كما نقول نحلت فلاناً كذا وكذا أي وهبته وتنازلت له. وهي نحلة واجبة للأمر الصريح بذلك في هذه الآية، وقد جاء في السنة ما يقصد ذلك، وهو ملك للمرأة يجوز لها أن تتنازل لزوجها عن شيء منه، ويحل لزوجها أكل ذلك دون حرج ما دام بسماح زوجته وإذنها.

والنظر إلى المهر على هذا الأساس أكرم من النظر إليه على أنه ثمن لبضع المرأة، فالزواج ليس بيعاً وشراءً ولكنه رباط مقدس لاستمرار الحياة وتبادل المنافع وللتراحم والتآلف والحب، والبيع والشراء محله المشادة والغش والمناورة ، ولا يجوز أن يكون عقد الزواج كذلك، ولذلك كان النظر إلى المهر على أنه نحلة وهدية هو الواجب لأن الهدية والعطية تكون بين الأحباب بعكس البيع والشراء.

ولما كان المهر هدية ونحلة لم يأت في الشرع تحديد لأقله وأكثره وإنما ترك للمقدرة والأريحية وقد زوج الرسول رجلاً وامرأة من المسلمين على تعليم آيات من القرآن الكريم وذلك لما لم يكن عنده شيء يصلح أن يكون مهراً حتى أن الرسول قال له: “التمس ولو خاتماً من حديد”، فلم يجد فزوجه إياها على أن يعلمها سوراً من القرآن.

خامسا- أهليّة العاقدين:

ويقصد بهذه الأهلية التمييز وصلاحيتهما لوقوع العقد عليهما، فإذا كان أحد العاقدين فاقد الأهليّة للعقد بأن كان مجنوناً أو صغيراً غير مميّز فلا ينعقد الزواج بعبارته كما لا ينعقد منه أي عقدٍ أو تصرفٍ آخر؛ لأنّ فاقد التمييز ليس له إرادة ولا يُتصوَّر منه رضا يعتمد عليه في العقد.

سادسا- اتحاد مجلس العقد:

المقصود باتحاد مجلس العقد أنّ الايجاب إذا صدر من أحد العاقدين فلا يجوز أن يوجد من أحدهما ما يدلّ على الإعراض عن إتمام العقد صراحةً أو ضمناً، وألا ينشغل أحدهما بأمرٍ خارجٍ عن موضوع عقد الزواج أثناء إجرائه حتى يصدر القبول؛ لأنه إن وُجِد ذلك يُعدّ فاصلاً للإيجاب فلا يوافق القبول.

حكم عقد الزواج بوسائل التواصل الحديثة

الأصلُ في عقد الزواج أن يكون بطريق مباشر بحضور طرفي عقد الزواج (الزوج وولي المرأة)، مع الشهود، ويمكن عقد هذا الزواج في بلد الزوج أو الزوجة، وإذا شق ذلك فيمكن أن يوكّلَ الوليُّ شخصاً في بلد الزوج فيعقد له مع حضور الشهود، أو يوكّل الزوج شخصاً في بلد الولي فيعقد له مع حضور الشهود، وقد قرر أهل العلم جواز التوكيل في عقد النكاح.

واختلف الفقهاء المعاصرون في حكم عقد الزواج عبر وسائل الاتصالات بين مانع ومجيز ومحتاط للأمر، بناء على عدة اعتبارات مؤثرة في الحكم؛ أهمها: حكم عقد الزواج كتابةً، وتحقق اتحاد مجلس العقد بجلسة التواصل الاجتماعي، والتوثق من توافر الشروط والأركان، وعدم حصول الخديعة والخطأ في هذه العقود؛ لإمكان التلاعب صوتاً وصورةً وغير ذلك.

ويمكن القول: إنّ عقد الزواج بالوسائل الحديثة؛ إما أن يقع بالكتابة والمراسلة كالرسائل النصية والبريد الإلكتروني، وإما أن يكون بالمراسلة الصوتية، وإما أن يكون بالاتصال الصوتي عبر الهاتف أو برامج المكالمات الصوتية، وإما أن يكون بالمكالمات المرئية التي تجمع الصوت والصورة (فيديو). ولكل منها حكمه الفقهي.

1-  فأما عقد الزواج بالمكاتبة والمراسلة فلا يجوز عند جمهور أهل العلم؛ لاشتراط التلّفظ بالإيجاب والقبول، قال النووي في “روضة الطالبين”: “إذا كتب بالنكاح إلى غائبٍ أو حاضرٍ: لم يصحَّ. وقيل: يصحُّ في الغائب، وليس بشيء)، وقال الدردير في “الشرح الصغير”: “ولا تكفي الإشارة ولا الكتابة إلا لضرورةِ خرس”.

2- وأما عقد الزواج بالرسائل الصوتية فهو لا يختلف عن المراسلة الكتابية؛ من حيث عدم اتحاد المجلس، ووجود الفاصل بين الإيجاب والقبول، وعدم حضور الشهود للإيجاب والقبول، فلا يجوز عقد النكاح بهذه الطريقة، قال ابن قدامة في “المغني”: “حكم المجلس حكم حالة العقد، فان تفرقا قبل القبول: بطل الإيجاب؛ فإنه لا يوجد معناه؛ فإنّ الإعراض قد وُجد من جهته بالتفرق، فلا يكون قبولاً، كذلك إذا تشاغلا عنه يما يقطعه؛ لأنه مُعرِضٌ عن العقد أيضاً بالاشتغال عن قبوله”، وقال النووي في “روضة الطالبين”: “يشترط الموالاة بين الإيجاب والقبول على الفور؛ ولا يضر الفصل اليسير، ويضر الطويل”.

3- وأما إجراء عقد الزواج بالاتصال الهاتفي والبرامج الصوتية؛ فقد أجازه جمعٌ من أهل العلم المعاصرين بشرط توفر جميع الإجراءات التي تضمن صحة العقد، من وجود الولي والشاهدين، والتأكد من شخصية الزوجين بالمعرفة أو السماع، وسماع الشهود لطرفي العقد في مجلس واحد لا يكون فيه فصل أو انقطاع، بحيث يسمع كلُّ طرف كلام الطرف الآخر في الوقت نفسه؛ فيكون الإيجاب من الولي أو وكيله، ويليه القَبول من الزوج أو وكيله على الفور، مع الأمن من التدليس والغلط، فلو اقتصر سماع الشهود على الإيجاب الصادر من الولي فقط، أو على القبول من الزوج لم يصح العقد.

4- وأما إجراء عقد النكاح بالمكالمات المرئية فهو أولى بالجواز من المكالمات الصوتية؛ لإمكان مشاهدة طرفي العقد حال إبرام العقد والتلفظ بالإيجاب والقبول، ولانتفاء الخداع والخطأ غالباً، فيجوز إبرام عقود النكاح بهذه الطريقة مع مراعاة الضوابط السابقة المذكورة في الفقرة السابقة.

ويجب أخذ جميع الاحتياطات اللازمة للتأكد من صحة هذا الزواج ونفي الغش أو الغرر عنه، ومنع الخلاف حوله في المستقبل من: التأكد من سماع جميع الأطراف لما يجرى في العقد، وخاصة الشهود، والتأكد من فهمهم لكل ما يقال، بإعادة التلفظ به، واحتفاظ كل طرف بما يمكن من إثبات هذا العقد سواء تسجيل صوتي أو مرئي، أو عقد كتابي، ونحو ذلك لتكون وسيلة إثبات عند الحاجة.

لكن إذا لم يحصل العلم بتوفر الأركان والشروط، أو وقع الشك فيه، أو لم يُتحقق من وجود أطراف الزواج وسماع بعضهم لبعض، أو عدم القدرة على عقد مجلس الزواج متصلاً مستمرًا، أو وجود ما يثير الريبة، أو إمكانية حصول الخطأ أو وجود غرر أو تلاعب ولو من أحد الأطراف؛ فيتعيّن العدول عن إجراء العقد بهذه الوسائل، والمصير إلى التوكيل بالزواج.

المصادر:

  • حاشية ابن عابدين
  • لسان العرب، ابن منظور.
  • الموسوعة الشاملة.
  • موقع موضوع.
  • موقع إسلام أون لاين.
  • موقع فركوس.
  • موقع الإسلام.. سؤال وجواب.

 

 

مواضيع ذات صلة