تاريخ النشر الأصلي 2019-09-11 00:02:07.
د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن الآداب العظيمة التي شرعها الإسلام: أدبُ الاستئذان، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]، قال ابن الجوزي: “لا يجوز أن يدخل بيت غيره إلا بالاستئذان؛ لهذه الآية، يعني: يجب الاستئذان إذا أراد الدخول إلى بيت غيره، ومعنى تستأنسوا: تستأذنوا” [1].
والاستئذان: هو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، والآداب كثيرة أكتفي ببعضها، فمن ذلك:
أولًا: السنة تقديم السلام قبل الاستئذان، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟، فإن لم يجبه أحد، قال ذلك ثانيًا وثالثًا، فإن لم يجبه أحد انصرف، روى أبو داود في سننه من حديث ربعي بن خراش قال: حدثنا رجل من بني عامر، أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: “اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟” فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ [2].
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ” [3].
ثانيًا: أن يقف المستأذن عن يمين أو شمال الباب حتى لا تقع عينه على شيء في الدار لا يرغب صاحبها أن يراه أحد، فإنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فقد روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ” [4] .
ثالثًا: أن يُعرِّف المستأذن بنفسه، فإذا قيل له: من أنت؟ يقول: فلان بن فلان، أو فلان المعروف بكذا، أو ما أشبه ذلك بحيث يحصل التعريف التام به، ويُكره أن يقتصر على قوله: أنا أو الخادم أو بعض المحبين.
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر ابن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “مَنْ هَذَا؟” فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: “أَنَا، أَنَا”، وحدثني عبدالرحمن بن بشر حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد، وفي حديثهم: كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِك [5].
وروى البخاري ومسلم في حديث الإسراء المشهور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ صَعِدَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الثَانيةِ وَالثَالِثَةِ وسَائِرَهُن، وَيُقَالَ فِي بَابِ كُلِ سَمَاءٍ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُول: جِبْرِيلُ، وَيُقَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمد….” [6].
رابعًا: ينبغي للمستأذن ألاَّ يدق الباب بعنف لما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس بن مالك أنه قال: أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير [7].
خامسًا: ينبغي للرجل إذا سافر وطال سفره ألا يطرق أهله ليلًا، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمِ الْغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُق أَهْلَهُ لَيْلًا” [8]. وفي رواية: نهى أن يطرق أهله ليلًا يتخونهم، أو يلتمس عثراتهم [9].
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: معنى هذه الروايات كلها أنه يُكره لمن طال سفره أن يقدم على امرأته ليلًا بغتة، فأما من كان سفره قريبًا تتوقع امرأته إتيانه ليلًا فلا بأس[10] أ هـ.
وفي عصرنا الحاضر تنتفي هذه العلة بوجود وسائل الاتصال، حيث يمكن عن طريقها معرفة قدومه.
سادسًا: يحرم نظر الرجل في بيت غيره إلا بإذنه، روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: “لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ” [11].
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ”[12] .وفي رواية للنسائي: “فَلَاَ دِيَة وَلاَ قِصَاص” [13].
سابعًا: إذا لم يؤذن للمستأذن فليرجع، فربما كان صاحب البيت لا يستطيع الاستقبال، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ﴾ [النور: 28].
ثامنًا: إذا كان المكان غير البيوت المسكونة، فإن كان للمسلم فيها متاع يحتاج إليه فقد قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 29]. مثل الأسواق والفنادق، والمحلات.. وغيرها.
تاسعًا: أن من دعي أو أُرسل له رسول فإنه لا يحتاج إلى الاستئذان للحديث الذي رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ ” [14]. واستثنى بعض أهل العلم ما إذا تأخر المدعو عن الدعوة، أو كان في مكان يحتاج معه في العادة إلى الإذن فإنه يستأذن.
عاشرًا: الاستئذان على المحارم من النساء كالأم، والأخت وغيرهن فلا يدخل عليهن في أماكن راحتهن وغرفهن حتى يستأذن عليهن بطرق الباب أو أي وسيلة أخرى.
روى البخاري في الأدب المفرد أن رجلًا سأل حذيفة رضي الله عنه فقال: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَستَأذِنْ عَليهَا رَأيْتَ مَا تَكْرَه [15].
الحادي عشر: استئذان الأطفال: قال تعالى: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 58-59].
قال المفسرون: “يا أيها الذين آمنوا بالله وعملوا بما شرع لهم ليطلب منكم الإذن عبيدكم وإماؤكم والأطفال الأحرار الذين لم يبلغوا سن الاحتلام ثلاث مرات في ثلاثة أوقات، وذلك في غرف النوم وأماكن الراحة: من قبل صلاة الصبح وقت إبدال ثياب النوم بثياب اليقظة، وفي وقت الظهيرة حين تضعون ثيابكم للقيلولة، وبعد صلاة العشاء لأنه وقت نومكم وخلع ثياب اليقظة ولبس ثوب النوم، هذه ثلاثة أوقات عورات لكم لا يدخلون فيها عليكم إلا بعد إذن منكم، ليس عليكم حرج في دخولهم دون استئذان، ولا عليهم هم حرج فيما عداها من الأوقات، هم كثيرو التطواف، بعضكم يطوف على بعض، فيتعذر منعهم من الدخول في كل وقت إلا بالاستئذان” [16].
الثاني عشر: الاستئذان عند الخروج لما رواه أبو الشيخ في تاريخ أصبهان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا زَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهَ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، فَلا يَقُومَنَّ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ” [17].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* المصدر: موقع الألوكة (بتصرف يسير).
————
[1] الآداب الشرعية للحجاوي ص (212).
[2] برقم (5177)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله (3/ 972-973) برقم (4312).
[3] صحيح البخاري برقم (2062)، وصحيح مسلم برقم (2154).
[4] برقم (5186)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 974) برقم (4318).
[5] صحيح البخاري برقم (6250)، وصحيح مسلم برقم (2155).
[6] صحيح البخاري برقم (349)، وصحيح مسلم برقم (162) واللفظ له.
[7] صحيح الأدب المفرد ص(418) ورقم (824)، وصححه الألباني رحمه الله كما في السلسلة الصحيحة برقم (2092).
[8] برقم (5244).
[9] صحيح مسلم برقم (715).
[10] شرح صحيح مسلم للنووي (13/ 74).
[11] صحيح البخاري برقم (5924)، وصحيح مسلم (2156).
[12] صحيح البخاري برقم (6902)، وصحيح مسلم برقم (2158).
[13] برقم (4860).
[14] برقم (5190)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في إرواء الغليل (1955).
[15] صحيح الأدب المفرد برقم (810)، وحسنه الألباني رحمه الله في تحقيقه عليه.
[16] المختصر في التفسير بإشراف مركز تفسير للدراسات القرآنية ص(357).
[17] تاريخ أصبهان (113)، نقلًا عن الشيخ الألباني رحمه الله كما في السلسلة الصحيحة برقم (182).