المعاملات في الإسلام وأحكامها

تاريخ النشر الأصلي 2019-06-30 00:05:07.

المعاملات جمع معاملة مصدر عامل، من العمل، وهو لفظ عام في كل فعل يقصده المكلف، لكن اصطلح على إطلاق هذا المصطلح على الأحكام المنظمة لعلاقات الأفراد بعضهم مع بعض مما هو في مجال الأمور الحياتية، وما ينشأ عن هذه العلاقات من آثار، ومن ثم يدخل في مجال المعاملات: العقود المالية بأنواعها، وأحكام الأسرة، والجنايات والحدود والقضاء والإمامة والرئاسة والعلاقات الدولية ونحوها.

وإن كان البعض قد أخرج أحكام الأسرة من المعاملات واعتبرها قسما مستقلا بذاته لأن لها شبها بالعبادات وآخر بالمعاملات، لكن لا يمكن عدها من قبيل العبادات المحضة كالصلاة والصيام، كما لا يمكن عدها من قبيل المعاملات المالية المحضة، ومن ثم فيه تحتل مرتبة متوسطة بين العبادات والمعاملات، ولذلك ستفرد لها حديثا مستقلا.

وهناك من فصل المعاملات عن العقوبات كما قال ابن عابدين وغيره من فقهاء الحنفية ” اعلم أن مدار أمور الدين على الاعتقادات والآداب والعبادات والمعاملات والعقوبات، والاولان ليسا مما نحن بصدده.والعبادات خمسة: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والمعاملات خمسة: المعاوضات المالية، والمناكحات، والمخاصمات، والامانات، والتركات.والعقوبات خمسة: القصاص، وحد السرقة، والزنا، والقذف، والردة.

من أحكام المعاملات

1- الأصل في المعاملات الإباحة ما لم يرد دليل بالمنع.

والمقصود بهذا الأصل إطلاق الحرية للناس في أن يعقدوا من العقود والتصرفات ما يرونه محققا لمصالحهم، وبالشروط التي يريدونها غير مقيدين إلا بقيد واحد فقط وهو ألا تشتمل تلك العقود على أمور قام الدليل على المنع منها كأن يشتمل العقد على ربا، أو غرر، أو غش ونحو ذلك مما لا تقره الشريعة ولا يقبله العقل.

ومما يدل على تمتع المعاملات بهذه السمة قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البيهقي وأبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم ” المسلمون عند شروطهم، وفي رواية ” على شروطهم ” إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما، وفي رواية ” ما وافق الحق ”

ومقتضى هذا الحديث أن للمتعاقدين الحرية في إضافة ما يرونه من شروط في معاملاتهم، ومثله ابتكار عقود ومعاملات لم تكن معروفة من قبل ولا قيد عليهم في ذلك إلا إذا كان ثمت داليل يمنع من ذلك.

قال ابن تيمية: “الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به “.

وعند ابن القيم في الإعلام موضحا خطأ من زعم عكس هذا الأصل فقال: “اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دينا إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.

والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه وما سكت عنه”.

2- مراعاة العلل والمصالح:

مما يتسم به فقه المعاملات المالية من حيث الأصل أنه معقول المعنى، معلوم العلة، واضح المقصد، لا يتعبد فيه بشكل، ولا بصورة فما يحقق المصالح ويدفع المفاسد وينسجم ويتناغم مع المقاصد الشرعية ويخلو مما حرمه الله ورسوله فهو مباح وإن اختلف صورة وشكلا عما كان عليه الحال في عصور السلف، لأن الغاية من إبرام المعاملات تحقيقها لمقصودها لا مجرد القيام بها.

وتفيد هذه السمة في أهمية التجديد والابتكار والتطوير في المعاملات بما يحقق مصالح الناس، كما تفيد في إباحة الاستفادة من الغير في هذا المجال ما دام يلبي حاجة الأمة ويجلب لها الخير، كما يفيد في طرح أي صورة أو شكل يعجز عن تحقيق هذه المصالح، وهو ما عبر عنه العز بن عبد السلام في قواعده بقوله ” كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل”

وقد استدل الشاطبي على تمتع المعاملات بهذه السمة بعدة أدلة، فيقول:

وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، فلأمور، أولها: الاستقراء فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات وقال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب وقال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وفي الحديث لا يقضي القاضي وهو غضبان وقال لا ضرر ولا ضرار وقال: القاتل لا يرث ونهى عن بيع الغرر وقال كل مسكر حرام وفي القرآن {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} إلى غير ذلك مما لا يحصى وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.

والثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان ونقل عنه أنه قال إنه تسعة أعشار العلم حسبما يأتي إن شاء الله

والثالث: أن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة والاجتماع يوم العروبة وهي الجمعة للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول وهي كثيرة وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام ”

وقد فرع العلماء من هذا الأصل الذي تتسم به المعاملات أصلا آخر وهو “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”، ومقتضى هذه القاعدة أن العقود والمعاملات المالية تتمتع بمرونة كبيرة بحيث يمكن أن تتقبل الأشكال والأساليب الجديدة في التعاقد بما يحقق المصلحة العامة، ويحفظ حقوق المتعاقدين ما لم تعارض قاعدة شرعية أو تناقض قصدا مرعيا.

ومن آثار هذه السمة عند الحكم على أي معاملة أنه لا يحكم عليها بالصحة لمجرد استكمال الشكل الشرعي لصحتها لكنها لم تحقق مقصود الشرع منها، ولذلك أبطلت الشريعة الحيل في باب المعاملات التي تستوفي فيها المعاملة شكلها الشرعي لكنها كانت حيلة لربا، أو أكل لأموال الناس بالباطل ونحو ذلك من صور التحايل على المحرم، كما أن الشريعة لها موقف من المعاملات التي لا تراعي مقاصد الشريعة ولا ترتيب أولوياتها، مثل تلك الأعمال التي تعظم من شهوة الإنفاق على الكماليات والترفيهيات مع الإخلال بالضروريات والحاجيات

3-  قيام المعاملات المالية في الأصل على القواعد الكلية والمبادئ العامة دون الإكثار من الجزئيات والتفصيلات.

وهذه السمة تضمن للمعاملات الجمع بين الثبات والمرونة، حيث يكون الثبات في مجال القواعد والمبادئ العامة الثابتة، كقاعدة التراضي في العقود، والوفاء بها، وحرمة الربا والغش الاحتكار والغرر، والأحكام التي تتعلق بمقاصد الشريعة من تحقيق العدل ومنع الظلم وحفظ المال وغير ذلك.

أما المرونة ففي جانب تحديث وتطوير الوسائل والأساليب التي نتعامل بها، واستحداث ما يحقق مصلحة المسلمين ويحفظ عليهم مالهم وحياتهم، وهو مجال يخضع للسياسة الشرعية التى تقوم على جلب المصلحة ودفع المفسدة، ويدخل فيه قوله – صلى الله عليه وآله وسلم –فيما رواه مسلم وغيره “أنتم أعلم بأمر دنياكم” في قصة تأبير النخل الشهيرة.

وهذه السمة بدهية ولازمة إذ لا يتصور أن يكون الأصل في المعاملات الإباحة، ورعاية العلل والمصالح دون التقيد بشكل أو لفظ ومع ذلك تأتي نصوص تفصيلية وجزئية تحدد أساليب وأشكالا.

وما فصلته الشريعة الإسلامية في هذا الباب يقع أغلبه في باب المناهي والمحظورات فهذا الباب مما لا يمكن تركه دون تفصيل، وما حرمه الشرع في المعاملات يصب كله في حفظ المال والحقوق وتحقيق المعاملات لمقاصدها الشرعية في جلب المصالح ودفع المفاسد.

4- سعة مصادر فقه المعاملات:

مصادر التشريع الإسلامي متعددة وكثيرة، منها: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف وغيرها والمصادر الثلاثة الأخيرة لا تعمل إلا في مجال المعاملات والعادات دون العبادات ؛ لأن العبادات توقيفية فلا يصلح معها لا استحسان، ولا استصلاح، ولا عرف، بخلاف المعاملات حيث يصلح لها الجميع، مما يسهم في استيعاب الشريعة الإسلامية لكافة صور المعاملات وأنماطها دون جمود.

وإذا كانت المعاملات يصلح لها الاستحسان والاستصلاح والعرف فكل زمن ومكان له عرفه ومصلحته ولا يجوز استنساخ عرف زمان أو مصلحته لزمان آخر ومكان آخر، وهذا تنبيه لما قد يقع فيه البعض من نقل حرفي لما أورده الفقهاء المتقدمون في كتبهم من اجتهادات مبنية على العرف أو الاستحسان أو المصلحة أو فهم لنص قرآني او نبوي كان للعرف دور في هذا الفهم، فهذا كله مما لا يعد من مصادر التشريع ولا اعتبار اجتهادات الفقهاء في هذا الباب من الاجتهادات القطعية التي لا يجوز مخالفتها.

إزاء تمتع المعاملات في الإسلام بهذه السمات يمكننا تصور موقف الشريعة الإسلامية من المستجدات والابتكارات في مجال العقود والتصرفات المالية ؛ إذ تشجع الشريعة الإسلامية كل تصرف ومعاملة تحقق مقصد عمران الأرض، وتلبية احتياجات الناس بما يضمن لهم الكفاية إن لم يكن الرفاه ما لم تشتمل تلك التصرفات والمعاملات على محظور شرعي.

وفي نفس الوقت تجيب هذه السمات على أسئلة البعض ممن يسأل عن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات المالية، كيف يتم التعامل مع البنوك والبورصات والتجارة الدولية ودخول الدولة في منظمات التجارة العالمية ونحو ذلك مما هو من مستجدات الحياة المالية، والإجابة على ذلك باختصار أن الشريعة في هذا المجال لا تراقب فقط إلا تحقيق هذه المعاملات لمصالح الناس، وخلوها من الربا والغش والغرر والظلم، وكافة المفاسد والأضرار التي يمكن أن تصيب الأمة من جراء الصفقات الفاسدة والمغشوشة، ولا تمنع شيئا من ذلك بحجة أنه لم يكن موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو انه لم توجد نصوص شرعية تتكلم عن البورصة أو البنك أو اتفاقية الجات.

بعد عرض ما تقدم لسمات مجالي الأحكام الشرعية العملية فإنه من الخطأ النظر في العبادات من باب المعاملات أو العكس؛ لأن النتيجة هي إما الجمود وتعطيل مصالح الناس، أو ضياع العبادات وهجرها، والصواب إعطاء كل مجال ما يستحقه فيتحقق بذلك صلاحية الشريعة وبقاؤها ودوامها وتحقيقها لمقاصدها في الخلق.

* بتصرف من موقع “منارات”.

مواضيع ذات صلة