ليلة النصف من شعبان.. تنقية الباطن وسلامة الظاهر

د. رمضان فوزي

تعد ليلة النصف من شعبان من النفحات الربانية والفيوضات الإلهية التي يتفضل الله تعالى بها على عباده؛ ليعود شاردهم ويتوب عاصيهم ويجتهد طائعهم، فهي فرصة للتنقية والتخلية والتحلية التي يحتاجها الإنسان كل حين لينخلع من علائق الدنيا إلى عوالم الآخرة، ومن شوائب الجسد إلى نقاء الروح؛ استعدادا لشهر الخيرات والبركات.ليلة النصف من شعبان تجمع بين سلامة الظاهر وصفاء الداخل

لقد وردت في ليلة النصف من شعبان أحاديث وآثار كثيرة، صحح علماء بعضًا منها، وضعفها آخرون وإن أجازوا الأخذ بها في فضائل الأعمال، مثل حديث أحمد والطبراني “إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لأكثر من شَعْرِ غَنَمِ بني كلب، وهي قبيلة فيها غنم كثير”.

لكن سنكتفي بأثرين اثنين مما ورد في فضل هذه الليلة:

أول هذين الأثرين ما رواه ابن ماجه والطبراني وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن” (صححه الألباني).

أما الأثر الآخر فهو الحادثة التاريخية التي تعد نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية وهي تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، وإن كان هناك خلاف في موعد تحويلها إلا أن ابن كثير نص في “البداية والنهاية” على أن الجمهور الأعظم قالوا: “إنما صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة”.

تكامل العبادة

إن حياة المسلم تتكون من مجال باطني خفي يتمثل في قلبه وعواطفه وما يكتنفها من تغيرات وتحولات، ومجال خارجي ظاهر يتمثل في حركاته وعباداته التي يراها الناس.

ويعد المجال الداخلي الباطني أحد المؤثرات المهمة في المجال الظاهري؛ ولذلك فإن صلاح الباطن ينعكس في سلامة الظاهر وحسن توجهه.

والمتأمل في الأثرين الواردين في ليلة النصف من شعبان واللذين أشرنا إليهما منذ قليل، يمثلان التكامل بين الظاهر والباطن في صورة متكاملة؛ بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر:

فأولهما يمثل عبادة قلبية مهمة جدا، تعد عمود الأخوة الإيمانية وملاط المجتمع المتماسك؛ ولذا استحقت أن تستوجب مغفرة الله ورضوانه؛ ألا وهي سلامة الصدر، ومجاهدة المشاحنة التي تفسد العلاقات وتدمر المجتمعات وتهدم المؤسسات وتزعزع الكيانات.

أما الأثر الثاني فيتعلق بسلامة عبادة جسدية تمثل عمود الإسلام وعماده؛ ألا وهي تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام التي يُعد توجه المسلمين في كل أصقاع الأرض إليها شرطا لصحة صلاتهم وقبولها عند ربهم، والتي جاءت متوافقة مع رغبة البي صلى الله عليه وسلم التي نقلها القرآن الكريم في قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 144).

دروس تربوية

إن الحديث عن هذين الأمرين العظيمين اللذين وردا في فضل ليلة النصف من شعبان يحتاج إلى المصنفات الكبيرة لاستيعاب ما فيهما من دروس تربوية ونفحات إيمانية ولطائف ربانية، لكن يكفينا ما يجمع بينهما معا باعتبارهما جناحي التربية عند المسلم (سلامة العبادة القلبية والجسدية)، من خلال ما يلي:

أولا- إن سلامة الظاهر لا تغني عن سلامة الباطن؛ بل قد تكون سلامة الباطن سببا في “تسليم” الظاهر؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: “”كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ. وكم من قائم ليس من قيامه إلا السهر” (رواه الدارمي).

ولذا لم يكن تحويل القبلة ليتم بهذه الصورة إلا بعد تنقية القلوب وتخليصها لله تعالى؛ حتى إذا كان هذا الحدث الكبير والمفاجئ تقبله المؤمنون بكل تسليم وإيمان، وسارعوا إلى تنفيذه دون تؤدة أو تكاسل؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: “بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ؛ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ” (رواه مسلم)؛ فهؤلاء المؤمنون الذين تمكنوا قدموا إخوتهم الإيمانية على ما سواها؛ فتخلصوا من شوائب الشحناء والبغضاء، حينما جاءهم الخبر عن طريق أحد إخوانهم سهل عليهم تنفيذه والمسارعة إليه.

وفي المقابل فإن المنافقين الذين أبطنوا غير ما أظهروا، وتمكن النفاق من قلوبهم فانعكس على تحركاتهم الظاهرة في المجتمع فإنهم وجدوا فيها فرصتهم للنيل من الأمة وعقيدتها؛ وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في قول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 142، 143}.

ثانيا- وبناء على ما سبق فما أحوجنا إلى استثمار نفحات هذه الذكرى المباركة في تنقية القلوب وتصفية النفوس وتهدئة الصدور؛ طلبا لرحمة رب غفور، جعل من مقتضياتها التخلص من الشحناء المعطوفة في الحديث –السالف الذكر- على الشرك بالله؛ تأكيدا على خطرها المدمر وأثرها المخرب؛ فكم من زفرات قلب مشحون لم تجد تنفيسا لها إلا بالتعدي والأذى، أو المقاطعة والنوى؛ وهو ما يخلق مجتمعا مفككا ووطنا مبددا، لا يقوى على مواجهة المخاطر؛ بل يحمل مقومات انهياره الذاتي وخربه الداخلي؛ ولذا جعل ديننا سلامة الصدر من المتع التي يتلذذ بها أهل الجنة؛ إذ يقول تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

وفي النهاية فما أحوجنا إلى أن نزيل ما بيننا من حواجز قد تكون وهمية ونزعات شيطانية.. فلنتصارح ونتسامح، ولنتكاشف ونتعاذر.. ولنتصافَ ونتحابب؛ حتى يتحقق فينا قول ربنا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

 

 

مواضيع ذات صلة