الهدي النبوي في معاملة الزوجة

محمد محمود

كم هي مشاغل النبي صلى الله عليه وسلم، ومسؤولياته الدعوية، والإدارية والعسكرية وغيرها؟

هو المعلم، وهو المفتي، وهو القاضي، وهو القائد، إلى غير ذلك من عظيم المهام التي يتحمَّلها.

ولو تخيلنا حال من يدعوهم: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} (المدثر:50-52). وعلمنا شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلامهم واستجابتهم للدعوة، ومدى الهم الذي يكابده من صدودهم وإعراضهم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بهذا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6). {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر: 8).

لو علمنا ذلك لأدركنا أنه لا وقت لديه، ولا فراغ عنده، لكن كل ذلك لم يمنع الحبيب -صلوت ربي وسلامه عليه- من أن يستمع إلى عائشة وهي تحدِّثه عن قصةٍ طويلة سمعتها تتعلَّق بالحياة الجاهليَّة؟ يستمع إليها بإمعان.

بل يعلق على حديثها، ليُعْلمها أنه كان معها وهي تسرد أحداث القصة وتفاصيلها.

قصَّةٌ طويلةٌ جداً روتها أمنا عائشة رضي عنها عن نسوة تعاقدن، وتعاهدن ألا يكتمن شيئا من أخبار أزواجهن، فمنهن من كانت أوصاف زوجها كلُّها حسنة فوصفتها، ومنهن من كانت أوصاف زوجها قبيحةٌ فذكرتها، ومنهن من كانت أوصاف زوجها منها: الحسَن والقبيح، فذكرت ذلك كله.

فانتقى النبي صلى الله عليه وسلم من تلك القصَّة الطويلة خبرَ إحدى الزوجات وقد أثنت على زوجها ثناءً كبيراً، وهو أبو زرع، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: يا عائشة كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ.

ولأن أبا زرع طلق أم زرع، وهذا غاية ما تكرهه المرأة من زوجها: أن يفارقها، ولا سيما إذا كانت تحبه؛ لجميل خلاله وكريم أفعاله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفوته ذلك، فيستثني من حال أبي زرع مع أم زرع، ويقول لعائشة: “إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك”.

زانتك في الخلق العظيم شمائل *** يغرى بهن ويولع الكرمـــاء

فإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** وفعلت ما لا تفعل الأنـــواء

وإذا عفـــــوت فقادرا ومقــــدرا *** لا يستهين بعفوك الجهــــلاء

وإذا رحمـــــت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحـماء

حديث أم زرع

تحدث عائشة رضي الله عنها بالقصة فتقول للحبيب صلوات الله وسلامه عليه: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا.

قَالَتِ الأُولَى: زوجي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لاَ سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلاَ سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ.

قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زوجي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ، إني أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ. (أي عيوبه ظاهرها وباطنها).

قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زوجي الْعَشَنَّقُ،(أي الطويل المذموم) إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ.

قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زوجي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لاَ حَرٌّ، وَلاَ قَرٌّ، وَلاَ مَخَافَةَ، وَلاَ سَآمَةَ.(أي ليس فيه أذى كليل تهامة لذيذ معتدل ، ليس فيه حر ، ولا برد مفرط ،ولا أخاف له غائلة لكرم أخلاقه ، ولا يسأمني ويمل صحبتي) .

قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زوجي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ. (أي أنها تصفه إذا دخل البيت بكثرة النوم والغفلة في منزله عن تعاهد ما ذهب من متاعه وما بقي)

قَالَتِ السَّادِسَةُ: زوجي إِنْ أَكَلَ لَفَّ،(أي أكثر) وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، (أي لم يبق شيئا) وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ.( أي تصفه بالمروءة وكرم الخلق وأن لا يتجسس ولا يتتبع عوراتها)

قَالَتِ السَّابِعَةُ: زوجي غَيَايَاءُ -أَوْ عَيَايَاءُ- (أي عنين لا يقدر على أمر الفراش ) طَبَاقَاءُ، (أي أحمق) كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ (أي جميع أدواء الناس مجتمعة فيه الضرب والكسر وغيره).

قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زوجي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ. “أي لين الجانب، وكريم الخلق وطيب الرائحة)

قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زوجي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ.(أي انها تصفه بصفات الكرم والنبل)

قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زوجي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ (أي إذا سمعت إبله صوت المعازف علمت أنها ستنحر لإكرام الضيوف).

قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِىٍّ أُذُنَيَّ، وَمَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي (أي عظمني) فَبَجِحَتْ إِلَىَّ نَفْسِى، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ (أي مشقة)، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ (أي خيل) وَأَطِيطٍ (أي إبل) وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ (أي زراعة وخير)، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ؛(أي أرتوي).

أُمُّ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِى زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ (أي الوعاء الذي تحفظ فيه طعامها وعاء كبير عظيم) وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ.

ابْنُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا ابْنُ أَبِى زَرْعٍ؟ مَضْجِعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ (أي خفيف اللحم كالسيف سل من غمده) وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ.

بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا.

جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ؟ لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا،(أي لا تفسد الطعام) وَلاَ تَمْلأُ بَيْتَنا تَعْشيشاً.(أي أنها نظيفة)

قالتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأَوْطَابُ (أي أوعية اللبن) تُمْخَضُ، فَلَقِىَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فطلقني، وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلاً سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا ، (أي سريعا) وَأَخَذَ خَطِّيًّا،(أي أخذ رمحا) وَأَرَاحَ عَلَىَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وأعطاني مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ: كُلِى أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِي أَهْلَكِ. قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ؛ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِى زَرْعٍ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ» وفي رواية: إلَّا أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَإِنِّي لَا أُطَلِّقُكِ”.

هذه القصة أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما وقد قال ابن حجر في الفتح معلقا على قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: “غير أني لا أطلقُك ” أنه قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لَهَا وَطُمَأْنِينَةً لِقَلْبِهَا وَدَفْعًا لِإِيهَامِ عُمُومِ التَّشْبِيهِ بِجُمْلَةِ أَحْوَالِ أَبِي زَرْعٍ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَذُمُّهُ النِّسَاءُ سِوَى ذَلِكَ”

وأجابت هي رضي الله عنها عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها وحكمتها، فقالت: ” بَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي زَرْعٍ ” وفي رواية: “بِأَبِي وَأُمِّي لَأَنْتَ خَيْرٌ لِي مِنْ أَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ”.

خير زوج

مشاغل النبي صلى الله عليه وسلم الجمة، وهموم الدعوة وغيرها لم تحل بينه وبين الإصغاء لزوجه، والاهتمام بشأن حديثها، وإن كان لا يعينه في شيء، ولا يتصل بأي قضية من القضايا التي تشغل باله، لكن إصغاؤه إليها يقضي لها وطرا ويشعرها بأهميتها لديه ويبين لها عظيم حبه ووافر اهتمامه.

وقد قالت هي ذات مرة – لما أذن لها في النظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد-: “فوضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده” – وأطالت النظر- فقال لها “حسبك”، قالت عائشة: فقلت: “يا رسول الله لا تعجل، فقام لي ثم قال: «حسبك» فقلت: «لا تعجل يا رسول الله» قالت: «وما بي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساءَ مقامُه لي ومكاني منه»

وفي رواية كان يسألها: “أما شبعت؟”، قالت: فجعلت أقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده”.

لن تعذرك زوجتك بكثرة مشاغلك وهمومك في عملك، أو دراستك، بل قد تفسر انشغال بالك، وطول صمتك، وكثرة تفكيرك صدودا عنها وإعراضا وقلة رغبة فيها، وحق لها فإن لزوجك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه كما جاء في الحديث.

الزوجة تحتاج الى أن تحدثك عن همومها وأمورها وما يخطر ببالها وقد لا يعنيك ذلك في شيء، ولا تعبأ بتفاصيله، لكن الكمال الخلقي وتمامَ حسن العشرة يقتضيان أن تستمع إلى حديثها ولو كان بعضه مكررا، وأن تصغي إليها باهتمام وعناية، وحتى تشعرها بذلك وتعطيها الدليل عليه ينبغي أن تعلق على ما ينبغي التعليق عليه وتناقش وتستوضح ولو كان وضوح الحديث كالشمس في رابعة النهار.

قد يقول قائل هذه القصة تضمنت أوصافا فيها تنقص من أصحابها ولاسيما أنهم يكرهون ذلك وهذا من الغيبة.

والجواب أن ذكر الشخص المجهول عند المتكلِّم والسامع بما يكره ليس غيبةً.

فمن هم هؤلاء الرجال المتحدث عنهم؟، ومن هن أولئك النسوة اللواتي ذكرن عن أزواجهن ما ذكرن؟.

أشخاص القصة لا يُعرفون بأعيانهم ولا بأسمائهم، ومثل هذا لا يعد غيبة كما ذكر النووي وغيره من أهل العلم.

* المصدر: بتصرف من موقع إسلام أون لاين.

——-

  1. فتح الباري على صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني:9/275.
  2. شرح النووي على صحيح مسلم :15/222.

مواضيع ذات صلة