تاريخ النشر الأصلي 2020-05-25 01:06:28.
كلمات أحمد عبد المقصود
جلست في الليلة الأخيرة من ليالي رمضان مطرق الرأس غارقا في التفكير، يخامرني شعور بالفرح يمازجه شيء من الأسف، ويتجاذب قلبي شعوران: شعور بالفرح بكمال العِدّة، وتوفيق الله بأن يسّر لي صيام أيامه وقيام لياليه، وشعور بالخوف والإشفاق من فتور العزيمة وتراخي الهمة بعد رحيله، فمن أين لي بأجواء كأجوائه، وعطايا كعطاياه، ومشاعر كمشاعره؟
كانت تطوف بي تلك الأفكار إِذْ غشيتني سِنَةٌ من نُعَاس، وتمَثّل لي فيها رمضان رجلًا وضيء الطلعة، ريّان الشباب، تعلوه علائم الورع والصلاح، فناداني بصوت جميل مَهيب: قد علمت ما يجول بخاطرك، وعرَفْت ما تُشْفِق منه وتحذر، وما تخشاه من انتكاستك بعد رمضان.
وقد جئتك أطمئنك أن الله لا يخفى عليه وجلُك وإشفاقُك، وحذرُك وخوفُك، وأنه لن يُضَيّع عملك ما دمت مخلصًا حقًا وصادقًا في رغبتك أن تستمر على ما كنت عليه معي!
وقد جئتك كي تعاهدني أن تجاهد نفسك في حفظ ما نلته من تغير وارتقاء، فابسط يدك، واتل علي عهودك ومواثيقك، فالوقت قصير، وقد آذنت ساعاتي بالرحيل!
وضعت كفي بين كفّيه، وجرىٰ لساني بهذه الكلمات من غير سابق تهيئة ولا إعداد، وكأنما أُلْهِمْتُها إلهامًا!
* لقد تعلمت منك أن القرآن غيث القلوب، وأنه نور لي في الأرض، وذُخر لي في السماء، وأن أحب الأشياء إلى الله تلاوة كلامه، وأن حياتي دون القرآن ظلام حالك، وصحراء مُقفرة، وأن من الحرمان أن أطالع كل الصحف وأقرأ كل الكتب … ولا أقرأ القرآن!
✋وأتعهد أن أحافظ على وِرْد من القرآن – أقله جزء – أستضيء بأنواره، وأستهدي بحكمته، وألا يصرفني عنه صارف مهما بلغت أهميته، وأن أعيد تنظيم أعمالي وترتيب أولوياتي لأجعل القرآن على رأسها.
* لقد تعلمت منك أن الصيام جُنّة، وأنه تهذيب للنفس، يفْطِمها عن طغيان الغرائز، ويحررها من جواذب الطين، ويرفعها عن أثقال الأرض، وأن بابًا من أبواب الجنة ينتظر الصائمين يسمى باب الريان، لا يدخل منه أحد سواهم.
✋وأتعهد أن لا أحرم نفسي من قِسط من صيام النوافل من مثل الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عرفة وعاشوراء والعشر الأُوَل من ذي الحجة، حتى أظل موصولًا ببركات الصيام، مشمولًا بعطاياه، وسأقهر في سبيل ذلك أعذاري، وأجاهد استرخائي وكسلي.
* تعلمت منك أن المال وسيلة لا غاية، وأن خير ما يدّخره المرء من ماله ما يقدمه بين يديه في أعمال البر ووجوه الطاعات؛ فيمسح به دمعة يتيم، أو يرسم البسمة على وجه أرملة أو ثكلىٰ، أو يواسي معدما فقيرًا، فالصدقة تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
✋وأتعهد أن اتصدق بشيء وإن قلّ – ما دمت قادرًا – ، وأن أُصْغِي لأوجاع الناس من حولي، فلا أشبع وجاري إلى جنبي يتضَوّر جوعًا، وأن أنظر للفقير أنه هدية الله لي لأتطهّر بالصدقة، وأتخلّص من شُحِّ نفسي، وأن أُخصّص صندوقًا للصدقة في بيتي أدرّب به أبنائي على الإنفاق.
* تعلمت منك أن قيام الليل أفضل صلاة بعد الفريضة، وأنه شرَف المؤمن، وأن نسائم الأسحار وركعات الظُلَم شفاء للقلب وترياق للروح، وأنها دأب الصالحين، وموعد لتجليات الفيوض الإلهية والمنح الرحمانية، ولقاء الرب بأوليائه ومحبيه.
✋وأتعهد أن يكون لي نصيب من التهجد في الثلث الأخير من الليل، فإن عجزت فقَبْل نومي ولو ركعتين، فلا تمضي ليلة من دون أن أُسْرِج فيها مصابيح القرب، وأنعم بلذيذ الخطاب مع خالقي ومولاي.
* تعلمت منك أن الدعاء هو العبادة، فهو شارةُ العبودية ووسْمُ الافتقار، وأن مَنْ لم يسأل الله يغضب عليه، وأنه لا يهلك مع الدعاء أحد، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأن من سرّه أن يستجيب الله له في الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء كما قال حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
✋وأتعهد أن أسأل الله وحده في السراء والضراء، وأنتهز الأوقات الفاضلة والساعات الشريفة ومظانّ الإجابة، فأبسط يدي لمولاي أستمطره رحمته وأستدفعه نقمته، وأحفظ من مأثور الدعاء ما يُسْعِفني ويكون لي زادًا في مختلف الأحوال والحاجات.
* تعلمت منك أن أقرب الناس مجلسًا من الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم – أحسنهم أخلاقًا، وأن بيتًا في أعلىٰ الجنة يُهَيَّأ لكي يسكنه من حَسُنَ خُلُقُه، وأن الشديد الحَقَّ هو من يملك نفسه عند الغضب، وأن الحلم والصبر في معاشرة الناس أجمعُ لقلوبهم وأقربُ لإصلاحهم.
✋وأتعهد أن أعامل الناس بالحسنىٰ، وأن أصبر على أذاهم، وأن أدفع جهلم وطيشهم بالحلم والحكمة، وأن أُكثر في دعائي من قول: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت.
* تعلمت منك أن الخلوة والانقطاع عن الناس لبعض الوقت يعيد للنفس صفاءَها، ويَرُدُّ لها سكينتها وسلامها، وأن الاعتكاف بعيدًا عن صخب الأعمال اليومية، وشواغل الأعباء المرهقة حَرِيُّ بأن يَقِي النفس من موجبات القلق والأزمات النفسية.
✋وأتعهد بأن أخصص ساعة يومية للخلوة والتأمل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وساعة أسبوعية من بعد عصر الجمعة إلى مَغيب الشمس، وأن أمكث في المسجد قبيل الصلوات ما تيسر لي ذلك، عسى أن يصيبني شيء من ثمرات الاعتكاف وبركاته.
هذا عقد وميثاق بيني وبينك، وستجدني إن شاء الله وثيق الذمة صادق العهد، والله على ما أقول شهيد
فابتسم ابتسامة الرضا وربّت على كتفي فأفَقْتُ من غفوتي وقد ذهب عن نفسي الخوف والوجل، ووجدتني هادئ البال، مطمئن القلب، ماضي الهمة، نافذ العزم، راجيًا من الله أن أفي بعهدي مع رمضان حتى ألقاه مِنْ قابِل غير ناكث ولا مُبَدِّل … فمنِّي العمل والعزم ومن الله التوفيق والسداد.