تقاليد رمضانية لا بد من تَغيِيرهَا!

تاريخ النشر الأصلي 2017-05-24 11:33:42.

بعيدا عن عصرنا اليوم كان للبيت الإسلامي في تاريخه الأول تقاليد رمضانية تنشئ الأخلاق الزاكية والعبادات الوضيئة وترعى أصول الفضائل حتى تزهر كما ترعى الأرض الطيبة البذور الجيدة حتى تصير حبوباً وفواكه…

د. محمد الغزالي

أغلب البيوت تستقبل رمضان بقلق لأن ميدان التجارة يغزو الكساد، وميدان الزراعة يغزو الجفاف، والأسعار جانحة إلى الغلاء! و تقاليد المسلمين جعلت شهر الصيام شهر طعام، وجعلت النفقة فيه أربى من غيرها في سائر الشهور.

ما العمل؟  لنكن صرحاء ولنقل: إن على المسلمين تغيير تقاليدهم القائمة على الإسراف! و يجب أن تعود صبغة العبادة لشهر العبادة، وأن يبرز في الصيام معنى الجهاد والقدرة على مقاومة شتى الرغبات!.

كنت أحب ممن صرعتهم عادة “التدخين” أن ينتهزوا الفرصة فينسلخوا عن هذه العادة إما بإرادة قاهرة ناجحة، وإما بتدرج مقرون بالعزم.!

كنت أحب ممن يغلبهم الفتور في الدراسة أو في الإنتاج أن يتعودوا القراءة والتدبر والإجادة المثمرة لكل عمل..

إن البيت الإسلامي يقوم على إعداد الطعام لأهله، وليست مهمته أن يكوِّن عادات البطنة والتشبُّع، أو أن يدخل في منافسات مادية شفيهة لتقديم الأشهى والأغلى.

والظروف السياسية والعسكرية التي تمر بأمتنا تفرض علينا ألواناً من التقشف لا ألوانا من اللذات.

تقاليد رمضانية قديمة

وبعيدا عن عصرنا اليوم كان للبيت الإسلامي في تاريخه الأول تقاليد رمضانية تنشئ الأخلاق الزاكية والعبادات الوضيئة وترعى أصول الفضائل حتى تزهر كما ترعى الأرض الطيبة البذور الجيدة حتى تصير حبوباً وفواكه.

وكان الفتيان والفتيات يشبّون على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقول الحق ورعاية العهود والأمانات فكان البيت – بهذه الوظيفة – الرافد الأول لمجتمع راشد طاهر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر..

وكان الطفل يتعلم في سنينه الأولى كيف يصلي مؤتمّاً بأهله، فإذا اشتد عودُه بدأ يصوم! والمرحلة الأولى في العمر هي أساس ما بعدها من مراحل، ولذلك يقول الشاعر:

إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً    فمطلبها كهلاً عليه شديد!

وعلم الأخلاق يفيدنا أن الصفات الحميدة لا تولد في الإنسان فجأة، ولا توجد كاملة.

ما أجمل أن ترى في الوجوه الحياء النبيل وفي الألسنة الأدب الجمّ، وفي المسالك كلها تقوى الله والتزام حدوده.. وما أجمل أن تلمح الترفّع، والابتعاد عن المزالق، كما يقول الشاعر:

 وأُعرض عن مطاعم قد أراها             فأتركها، وفي بطني انطواء!

فلا وأبيك ما في العيش خير!              ولا الدنيا إذا ذهب الحياء!

يعيش المرء ما استحى بخير              ويبقى العود ما بقي اللحاء!

شهر الروحانيات

 وفي شهر الروحانية والجهاد وتلاوة القرآن أريد أن أذكر بضعة أحاديث في قيام الليل أحتاج قبل سردها إلى تمهيد طويل..

كنا ونحن طلاب في المراحل الابتدائية والثانوية نذاكر دروسنا بحماس ورغبة، وتقاضانا ذلك أن نسهر جزءاً  من الليل نجدد ما نخاف نسيانه ونؤكد ما استحضرناه، فينا من يخاف الرسوب وفينا من يريد التفوق!.

ولكن للنوم سلطاناً يميل بالرؤوس بين الحين والحين. فماذا نصنع؟ كان كثيرون يذهبون تحت صنابير الماء البارد ليطردوا النوم من الجفون، ويعودوا أشد نشاطاً!.

و أستحضر الآن هذه العهود وأقول: لو وجدتُ موجهين مهرة لحفظت في تلك الأيام كتاب كذا أو ديوان فلان! إن التحصيل في أيام اليفاعة زاد يبقى طول العمر!

وفي عباد الله من يتأهب للقاء الله بكنوز من الباقيات الصالحات تتحول يوم القيامة إلى نور يسعى بين يديه وعن يمينه ولعل التهجّد بالقرآن الكريم في طليعة تلك الصالحات!!.

وفي حديث سلمان الفارسي قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد“.. (رواه أحمد والترمذي)

غير أن قيام الليل يحتاج إلى تعاون بين الزوجين كليهما لا ليتناوبا بل ليتشاركا!! فعن أبي هريرة وأبي سعيد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :”إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليّا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات“. (رواه أبو داوود وابن ماجة)

وذا مسلك لا يحسنه إلا بيت مؤمن، سكن اليقين والخشوع قلوب أهله وحفزهم إلى مغالبة النعاس!.

إن هذه الركعات قد تحفظ مستقبل الأولاد! فقد كان عبدالله بن مسعود يصلّي من الليل، وابنه الصغير نائم، فينظر إليه قائلاً: من أجلك يابنيّ! ويتلو وهو يبكي قوله تعالى: “وكان أبوهما صالحا”..

وقد ذكر القرآن الكريم حال أولئك المتهجدين الساهرين وما أُعدّ لهم في بلاد الأفراح فقال: “تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (السجدة:16).

بيوت غيرت العالم!

على أن هذا القيام المنشود تعترضه صعاب، ولحظات استرخاء وفتور، وقد بين الرسول الكريم أن الزوجين يستطيعان الانتصار على لذة الرقاد ببعض الماء!

وقبل أن أذكر الحديث أؤكد أن هذا لا يصلح لكل بيت، ولا بين أي زوجين!! إنه عمل أساسه قبل كل شيء الرغبة السابقة في القيام، والاتفاق في النهار عليه، وعلم كل من الزوجين بأن صاحبه سوف يسرّ بالصحو لمناجاة الله، والتضرع إليه..

هل أذكر الحديث بعد هذه المقدمة؟ ليكن، ولو أني أذكره على وجل وخوفاً من سخط مدمني النوم! يقول الرسول – عليه الصلاة والسلام – :”رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء! ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء!والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.

وفي رواية أخرى “ما من رجل يستيقظ من الليل فيوقظ امرأته فإن غلبها النوم نضح في وجهها الماء، فيقومان في بيتهما، فيذكران الله عز وجل ساعة من الليل إلا غُفر لهما” .

هذه البيوت التي صنعها صاحب الرسالة العظمى هي التي غيّرت وجه العالم، ونقلته نقلة هائلة من الحضيض إلى الأوج.. أين من هذه البيوت المنيرة بيوت تسهر على أحفال التلفاز اللاهية الساهية، ثم ترتمي في فرشها كأنها جثث لا حراك بها، فلا تستيقظ إلا لأكل جديد أو سعي بليد؟

إن رمضان يقبل الآن وتقبل معه هموم النفقات المطلوبة للولائم المنصوبة! و أحفال التسلية لحلّ ألغاز البطالة!

 إن أمتنا تعاني من هزائم علمية وخلقية وصناعية وتجارية، فهل نصحو من الخدر الذي جمّد أفكارنا وأطرافنا، وألقى بنا وراء قوافل الأمم السائرة؟؟

____________________________________

المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، د. محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة التاسعة.

مواضيع ذات صلة