تاريخ النشر الأصلي 2020-01-26 01:31:29.
د. رمضان فوزي بديني
بعد أن عرضنا في الحلقتين السابقتين من سلسلة ” حوارات القيامة في القرآن للحوار بين رب العزة وأهل النار، والحوار بين أهل الجنة وأهل النار، نعرض في هذه الحلقة للحوار بين أهل النار بعضه بعضا، بين المستكبرين منهم والمستضعفين.
فبعد أن يستقر أهل النار في قرارهم البئبيس، ويوقنوا بباطل ما كانوا عليه في الدنيا، وأنه هو الذي أوردهم المهالك، وينقطع الأمل في النجاة، يتجهون إلى بعضهم بعضا ليلقي كل منهم اللوم على الآخر فيما هم فيه، ومنه هذا الحوار الذي ينقله القرآن الكريم بين الذين كانوا مستضعفين في الدنيا والذين كانوا مستكبرين فيها الذين أمروهم بالمعصية وكانوا سببا في مرافقتهم إياهم في الجحيم، ولكن هذه العتابات لا تجدي ولا تنفع شيئا؛ فالموازين قد وضعت، وحكم بين العباد بالقسط؛ فالاستضعاف في الدنيا لا يبرر الخضوع والاستسلام للمستكبرين الظالمين؛ فهذا لا يغني عنهم من الله شيئا؛ بل سيكونون رفقاء في النار كما أوضح القرآن في العديد من المواضع.
ومن هذه الحوارات ما ذكره تعالى في سورة سبأ، حينما يصف حال الظالمين بين يدي ربهم، فيقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي أنتم سبب هلاكنا وسبب بعدنا عن الإيمان؛ فقد أطعناكم في معصية الله تعالى، فيأتي رد المستكبرين {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُم مُّجْرِمِينَ}؛ أي أنكم كنتم مستعدين للإجرام والظلم، ونحن لم يكن لنا عليكم سلطان الجبر والإرغام على فعل ما لا تريدون؛ فيستمر الحوار ويرد المستضعفون {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا}؛ فهم يرجعون دور المستكبرين هنا إلى المكر والحيل التي يقومون بها ليصدوا الناس عن طريق الإيمان، وما أشد المكر الذي يحتاج في مواجهته إلى قوة تكافئه لتنتصر عليه وتنجو بنفسها، ولا يكون ذلك إلى بالركون إلى الله العزيز الجبار. ثم يسدل القرآن الستار على المشهد الحواري المؤلم قائلا: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومن هذه الحوارات أيضا ما ذكره -عز وجل- في سورة الصافات حينما يرى العصاة مصيرهم المشئوم {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، ثم تنقل عنهم الآيات حوارهم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي كنتم تأتوننا عن طريق الهداية والطاعة وتصدوننا عنه، فيرد عليهم المستكبرون لومهم على أنفسهم {قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}، ثم يأتي التعقيب القرآني ليجمع الفريقين معا في مصير واحد {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}.
وهو حوار شبيه بالحوار الماضي في سورة سبأ في محاولة المستضعفين إيجاد مبرر لما فعلوه، ورد الفريق الآخر عليهم بما معناه أنه لا أحد يملك سلطانا على أحد في هذا المجال؛ بل كل إنسان يمكنه أن يسلك طريق الهداية في الدنيا إذا وجدت منهم إرادة حقيقية.
ويبلغ الأمر مداه وترتسم الصورة واضحة معبرة عن الحالة البئيسة التي يعاني منها الجميع، وذلك في موضع آخر من القرآن في سورة (غافر) بعد أن تحدثت عن رمز الظلم والطغيان والاستكبار في الأرض عن فرعون الذي جعل نفسه إلها من دون الله؛ فتأتي الآيات لترسم صورة كل مستكبر ومن اتبعه في النار {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ}؛ فهل بخدمتنا لكم في الدنيا واستسلامنا لكم تدفعون عنا ولو جزءا صغيرا من العذاب والنار؛ فيأتيهم الرد الأكثر بؤسا وندما {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} فالحال واحد، ولو استطعنا لدفعنا عن أنفسنا شيئا من هذا العذاب، ولكنه حكم الله العادل بين عباده.
وهنا انتقل الحوار من التلاوم ومحاولة إلقاء السبب على الفريق الآخر إلى الإقرار بالواقع ومحاولة تخفيف الألم، من خلال استحضار الجهد المبذول في الدنيا لخدمة الطغاة والمستكبرين، والسعي للتخلص من بعض العذاب، لكنها محاولة بائسة؛ إذ الأمر حينها هو الحساب والجزاء، والقانون العام الحاكم هو {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}.
الحوار بين إبليس وأتباعه
ويدخل في هذا النوع من الحوار حوار إبليس عليه اللعنة، الذي هو قدوة المستكبرين وسبب إغواء الضالين، لكن هذا الحوار حوار من طرف واحد؛ طرف يتكلم والطرف الآخر لا ينطق ولا يرد من هول الدهشة؛ فما أقسى على النفس من تخلي المتبوع عن تابعه الذي وثق فيه حينما يحتدم الأمر وتنكشف الأمور، حينها لا يجدي الرد ولا العتاب، وربما يكون الصمت هو أبلغ رد في مثل هذا الموقف {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ما أقساها من كلمات وما أصعبها من لحظات على انخدع وضيع حياته، ثم ها هو يفاجأ بالمصير المحتوم، بعد أن انشغل كل من أغووه بحالهم؛ فلا أحد يملك شيئا لأحد، وليس لك إلا عملك هو الذي ينجيك بعد رحمة الله تعالى.
ولعل في هذه الحوارات التي ينقلها لنا القرآن قبل أن تحدث دروسا وعبرا لمن رهن أمر دينه بغيره، وانخدع بإبليس وحزبه؛ احذر فالأمر جلل، وما زال في الوقت متسع؛ فاسلك سبيل الحق وأهله، واعتزل طريق الشيطان وحزبه؛ فيوم الحساب لن يغني عنك أحد من الله شيئا.