حوارات القيامة بالقرآن (4).. بين أهل النار وأعضائهم الجسدية

تاريخ النشر الأصلي 2020-02-16 01:14:35.

د. رمضان فوزي بديني
حوارات القيامة بالقرآن

حوارات القيامة بالقرآن

عرضنا في الحلقات السابقة لبعض حوارات يوم القيامة التي نقلها لنا القرآن الكريم؛ حيث عرضا للحوار بين رب العزة وأهل النار، والحوار بين أهل الجنة وأهل النار، والحوار بين أهل النار بعضهم بعضا، نعرض هنا لحوار مختلف.. حوار لا يكون إلا يوم القيامة ألا وهو الحور بين الإنسان وبعضها بعضا.

من صفات الإنسان التي وصفه القرآن الكريم بها أنه أكثر شيء جدلا؛ فهو يحاول أن يدفع عن نفسه الخطأ والنقيصة بأي طريقة، حتى ولو كانت بالجدال بالباطل، ومن العجيب أن يمتد جدال أعداء الله لرب العزة جل وعلا يوم القيامة؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وتبسم، فقال: “ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت؟” قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: “عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال: بلى فيقول: فإني لا أقبل عليّ شاهدا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أوليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟! قال: فيردد هذا الكلام مرارا”. قال: “فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا، عنكن كنت أجادل”.

فما أجرأه من جدال ذلك الذي بعترض فيه الإنسان على ربه الحكم العدل وعلى ملائكته الكرام الكاتبين، وينقل لنا القرآن الكريم هذا المشهد وهذا الحوار بين الإنسان وأعضائه الجسدية بعد أن يرفض كل الشهود الذين شهدوا ضده؛ فينطق بعضه على بعض ويجادل بعضه بعضا {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إنها المفأجاة والرهيبة غير المتوقعة أن ينطق بعض الإنسان ويشهد عليه رغم أن العذاب سينال الكل بما فيه هذا البعض، ولكنه سلطان الله على الجوارح، ولكنه اليوم الذي تخرج فيه الطبائع عن خصائصها وصفاتها؛ فما لا ينطق في الدنيا ينطق في ذلك اليوم العظيم.

ولكن أعداء الله سُقط في أيديهم ولم يجدوا ما يماورن به؛ فاتجهوا باللوم والتقريع لأبعاضهم التي شهدت عليهم {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} وهنا تجابههم الجلود بالحقيقة التي غابت عن أذهانهم وهي قدرة الله عز وجل الذي أنطق ألسنتهم في الدنيا فكذبوا بها وكفروا وأضلوا وأنه هو الذي خلقهم أول مرة وأوجدهم من عدم؛ فمن فعل هذا قادر ان ينطق هذه الأعضاء اليوم {قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، ثم تستمر هذه الأعضاء في التبكيت والتذكير بضلال أعمالهم الناتجة عن سوء ظنهم في الله عز وجل {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ}.

حوارات القيامة رحمة من الله

ولعل من رحمة الله عز وجل بعباده أن نقل لهم هذه الحوارات قبل أن تحدث؛ حتى يأخذ الإنسان حذره من الآن؛ فإذا وجد رغبة للنظر إلى الحرام تذكر أن عينه تلك التي ينظر بها ستشهد عليه يوم القيامة أمام الله تعالى؛ فامتنع عن ذلك، وإذا أراد أن يسعى إلى الحرام تذكر أن رجله ستشهد عليه فيتوقف عن ذلك، وإذا أراد أن يبطش تذكر شهادة يده عليه فيمتنع عن ذلك، وإذا أراد أ ينطق بباطل تذكر أن لسانه سيشهد عليه فيسكت عن ذلك.

كما أن هذه الآيات تحوي دلالة على قدرة الله تعالى المعجزة؛ فهو الخالق وهو القادر على أن يسلب الإنسان قدرته على السيطرة على أعضائه في الآخرة فتنطق دون إرادته، بعد أن ترك له حق التصرف فيها في الدنيا فأساء استخدامها وتوظيفها.

يقول صاحب ظلال القرآن حول هذه الآيات وهذا المشهد المهيب: “إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب، وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب وهم يوصمون بأنهم أعداء الله. فما مصير أعداء الله؟

إنهم يُحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع!

إلى أين؟

إلى النار! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب.

إن ألسنتهم معقودة لا تنطق، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ. وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة، تروي عنهم ما حسبوه سرا. فقد يستترون من الله، ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم، ويتخفون بجرائمهم، ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم. وكيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستورا عن الخلق أجمعين. وعن الله رب العالمين!

يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب!”

إن الله عز وجل بهذا الحوار الذي لا يستطيع الإنسان إنكاره يكون قد أقام الحجة كاملة على صاحبه، حتى إذا عذبه كان عن استحقاق، وإن رحمه فيكون من فضل الله تعالى وكرمه.

مواضيع ذات صلة