حوارات يوم القيامة في القرآن (1)

د. رمضان فوزي بديني

حوارات يوم القيامة في القرآن سلسلة جديدة نعرض فيها أبرز الحوارات التي نقلها لنا القرآن الكريم، والتي ستحدث يوم القيامة.

من إعجاز القرآن أنه نقل الحوارات التي ستحدث يوم القيامة

الدين الإسلامي هو دين الحوار والمجادلة العقلية الإقناعية، وقد أكد القرآن الكريم على هذا المنهج في الكثير من الآيات التي حفلت بأساليب وأنواع من الحوار الراقي البناء القائم على مجابهة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.

وهذا الحوار ليس مقصورا على الحياة الدنيا فقط التي تحتاج إلى برهان عقلي وحوار هادئ هادف حتى تقنع الناس بما تدعوهم إليه من أمور غيبية احتفظ الله بعلمها، ولكن الحوار ممتد حتى يوم الدين، رغم أنه يوم يُكشف فيه الغيب وتُرفع الحجب وتُوضع الموازين، ولكنه حوار الحجة والبرهان وليس حوار الدعوة والإقناع.

ومن الإعجاز القرآني أنه ساق لنا بعض حوارات يوم القيامة؛ وهو ما يمثل قمة التحدي بأن هذا الكتاب من لدن حكيم خبير؛ فمثل هذه الحوارات لا يمكن أن ترد في أي كتاب آخر ولا يُخبر بها إلا مالك يوم الدين؛ فأهل الأرض رغم ما وصلوا إليه من تقدم علمي وتكنولوجي خاصة في مجال الاتصالات فإنهم يعجزون عن التنبؤ بمثقال ذرة من غيب يوم القيامة وأهواله، ويعجزون حتى عن التنبؤ بما يجري للميت في قبره، رغم أن القبر موجود بين أيديهم في الدنيا، ولكنه عتبة من أعتاب الآخرة؛ فعلى هذه الأعتاب تقف الدنيا بزخرفها وزينتها وعلومها عاجزة قاصرة عن الإدراك، ولا يملك الجميع إلا الخضوع لرب الأرباب الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.

وفي هذه الآيات وما تحويه من حوارات ومشاهد قرآنية دعوة للنفس للتدبر والتفكر والعيش مع اليوم الآخر، ودعوة للداعية إلى الله تعالى أن يزاوج في دعوته بين الخوف والرجاء، وبين الأمل والألم، وبين الثواب والعقاب؛ فالقرآن كما قص علينا من أخبار أهل النار وعذابهم، ساق لنا من أخبار أهل الجنة ونعيمهم، ودعوة للجميع لاعتماد الحوار والنقاش والإقناع في كل الأمور؛ ففي يوم القيامة رغم أن الجميع يكونون قد عرفوا مصيرهم وقرارهم فإن الحوار معهم لا يتوقف والكلام لا ينقطع؛ حتى يستقر كل فريق في مصيره وقراره الأخير.

فما أجمل العيش مع القرآن والتدبر في آياته ومعانيه!! فمعه نأخذ العبرة والعظة من قصص السابقين، ومعه نأخذ من الأحكام ما نسوس به الدنيا ونحمي الدين، ومعه نتعرف على الله رب العالمين، ومعه نعيش مع بعض معاني يوم الدين.

وفي هذه السلسة نقف مع بعض هذه الحوارات، محاولين العيش مع ظلال القيامة وما فيها من أحوال مضطربة ومتداخلة، مستشعرين فرح أهل الجنة بفوزهم بالنعيم المقيم، ولوعة أهل النار -والعياذ بالله- من مصيرهم الأليم.

ومع الحلقة الأولى من السلسلة وهي:

الحوار بين رب العزة وأهل النار

إن حوار رب العزة مع عباده يختلف عن حوار المخلوقات جميعا؛ فهو -عز وجل- يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولكن تختلف أغراض هذه الحوارات حسب سياقاتها؛ فحواره -عز وجل- مع أهل النار يهدف إلى إقامة الحجة وزيادة الحسرة والتوبيخ والتأنيب.

فمن ذلك ما ساقه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}.

إنه حوار التوبيخ والتأنيب؛ فالله عز وجل يريد من حواره مع هؤلاء إقرارهم بزيف ما كانوا عليه؛ فهو جل وعلا أعلم بجوابهم وأعلم بحالهم {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فيأتي رد الغاوين بالتبرؤ ممن أغووهم {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي أننا لم نملك سلطانا لإجبارهم على الغواية، ولكننا دعوناهم للضلال فاستجابوا عن رضا كما استجبنا نحن أيضا؛ فإغواؤهم كغوايتنا نحن أيضا، وهذا الحال يوم القيامة، الكل يتبرأ من أتباعه، والكل يعادي بعضه بعضا إلا المتقين كما قال عز من قائل: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}.

وينقل القرآن مشهدا آخر من مشاهد وحوارات القيامة يوم الحشر الأكبر لجميع الخلائق إنسهم وجنهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ} وهذا السؤال موجه للجن بأنكم استمتعتم من أوليائكم من الإنس، وهذا الاستمتاع بطاعتهم إياهم واتباعهم أوامرهم، ولكن الملاحظ أن هؤلاء الأولياء من الجن لم يردوا، ورد عنهم أولياؤهم من الإنس {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فالاستمتاع متبادل؛ فالجن تمتعوا بطاعتهم لهم، والإنس تمتعوا بالمعاصي والذنوب التي أمروهم بها؛ فهو تمتع مؤقت سرعان ما يزول وتنكشف الحقائق؛ فهذا التمتع كتمتع الأجرب بحكِّه جربه؛ فهو يظن أن في هذا الحك الشفاء لكنه يفاجأ بانتشار المرض، وحينما يكتشف هؤلاء خطأهم يكون التكفير عنه مستحيلا إذ يفجؤهم المصير المحتوم {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

وينقل لنا القرآن حوار أهل النار الذين كانوا أولياء متحابين في الدنيا؛ فها هم في النار يطلب كل منهم للآخر مضاعفة العذاب وهم يتلاعنون {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ} “أخراهم” هم التابعون الضعفاء، و”أولاهم” هم المتبوعون الأقوياء الذين يدخلون النار في البداية نتيجة إضلالهم وإغوائهم؛ فيطلب التابعون مضاعفة العذاب على المتبوعين الذي أغووهم وأضلوهم وكانوا سببا فيما هم فيه الآن، فيأتي الرد {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ}؛ أي لكل فريق ما يستحقه من أضعاف العذاب، كما قال -عز وجل- في موضع آخر: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}.

 

مواضيع ذات صلة