تاريخ النشر الأصلي 2019-05-11 09:38:36.
حامد بن عبد الله العلي
لم تأتِ آيـةُ التسامح في الإسلام “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…” (البقرة:256) بعد أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي، إلاّ ـ والله أعلـم ـ لبيان أنَّ هذا الدين العظيم لا يحتاج إلى الإكراه ـ واللجوء إليه دليل العجـزـ لينتصـر على الدين كلِّه ولو كره الكافـرون.
فالله تعالى الموصوف بالكمال المطلق كما في آية الكرسي، يسيـر عليـه أنَّ يجعل هذا الدين باهـرَ الآيات بحيث يجتذب إليه القلـوب، ويأخذ بالألباب، ويخُضع النفوس لعظمةِ حجّتـه، أي: فلا تُكرهوا أحـداً عليه، بـل أزيلوا الحجـب بين الناس ورؤيـة شمس براهينه الساطعـة، ثم خـلُّوا بينـها وبينهـم، فإنَّ جلال أنـواره سيخطـف الأبصـار، ويأسـر الأرواح.
أسلمت على يد رمضان !
حدثني شخصٌ أسلم عن قصة إسلامه وأنها كانت بسبب رمضان، قال إنه تعجَّـب من المسلمين في قريته، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّـب في السماء عندما انصرم الشهر الذي قبل شهر الصـوم، كأنهـم ينتظرون إشارة من خالق الكون من فوقهـم ليقوموا بشيءٍ بعدهـا، فلما رأوْا الهلال، فرحوا فرحا عظيما، كأنهم بُشـِّروا بأعظم البشرى، ولم أتوقّـع أن يكون فرحهم بأنهم سيمتنعون عن الشهوات طيلة شهـر في النهار كلِّه..
هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها، وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلهـا، وأنهم سيصلُّون بمناجاة ربهم في الليل، قال: فأخذ هذا منهم بلُبـِّي، واستحوذ على قلبي، فصمتُ معهـم، وأنا لا أعرف الإسلام، ولم أنطـق بالشهادتـين، بل أكتفي بالامتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلـمون لصلاة الصبح، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغـرب، وأذهب فأصلي معهم في الليل ـ صلاة التراويح ـ وأصنع مثل ما يصنعون، قياما، وركوعا، وسجـودا، غير أنني لا أتكلـم بشيء، فأجـد راحة عجيبة، وسكينة لم تعرفها روحي من قبل، حتى إذا انتصف الشهر، لاحظني الإمام وأنني غريب عن القوم، فسألني عن قصتي، فدهش من قصتي اندهاشا حمله على أن يجمع الناس ليسمعوا منـي، فلما سمعوا قصتي علموني الإسلام؛ فنطقت بالشهادتين، فكبروا وقالوا: أنت أسلمت على يد رمضان، وسموني رمضـان!
ومن عجائب آيات الله في رمضان، أنه لو بذل فلاسفـة البشرية ومفكروهـم كلهم مجتمعـون طلاع الأرض ذهبـا على أن يجعلوا سدس سكان الكرة الأرضية، يجتنبـون الشهوات، ويتنزهون عن متاع الدنيا، ويتركون بطونهم خاوية، ويلتفـتون إلى أرواحهـم ليطهروها من التعلق بعالم المـادة، إلى السمو الأخلاقي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجـة أن يدع طعـامه وشـرابه)، يوما واحـدا وليس شهرا كاملا، لأعلـنوا عجزهـم، فيما نجـح فيه هذا الدين العظيـم.
إنـَّه في كلِّ عام وفي شهـر كامـل، يلغـي من التاريخ البشري البطـون، ويجعل محلَّها القلـوب، ولهذا ـ والله أعلم ـ جعل الصيام في النهار دون الليل، حتـى يظهـر إعـلان هذه الحكـمة على الناس جهاراً نهـاراً، لايستخفى بظلمة الليل، ولاتكنـُّه بيوت المدر، والوبـر، وإنَّ هذه والله لآيـةً باهـرة.
كانت شهيتي لا تُطيعني غير وقت الغروب!
وأتذكر أيضا قصة أخرى من قصص الإسلام، تشبه ما ذكرته آنفا، وحدثتني بها امرأة كانت غير مسلمة، وكانت تشعر إذا دخل هذا الشهر المبارك بمـا يمنعها من الأكل والشـرب، وكان تبتعد عن زوجها متذرعة بالمرض في النهار إذا أرادها، وتقول لم أكن أستطيع أن آكل أو أشـرب، حتى أسمع المساجد حول بيتي تؤذن مع غروب الشمس، فكانت الدموع تذرف من عيني، إذ أجـد شهيتي لا تطيعني إلا إذا سمعت هذا الأذان، فآكل وأنا أبكي، وأتمنى أن أصبـح مسلمة، ولولا الخـوف من زوجي وأهله وأهلي، لأسلمت، ولما سألتني ماذا أصنع، قلت لها أسلمـي وانطقي بالشهادتين، واكتمـي إيمانك حتى يفتح الله عليك.
واسأل المجتهدين في دعوة غير المسلمين فسيخبرونك بالأعجايـب، ومن عجائب رمضـان إطـلاقه عوامـل الخيـر بين الناس، ولهذا تجد ما يتعاطاه الناس من الإحسان لبعضهم في هذا الشهر المبارك، لا يقارن بالسنة كلَّها، حتى صار يُسمَّى عند عامة الناس (رمضان كريم) وذلك لكثرة ما يرونه من تعاطـي الخير والإحسان بين الناس فيه.
ومن هنا ـ والله أعلم ـ شُرعت بهجة العيد بعده، ومقرونة بإخراج الصدقة قبل صلاة العيد أيضـا، لتربية المسلمين على أنَّ الابتهاج الحقيقي هو الذي يثمـرُهُ الإحسان إلى الناس، والتخلص من جشع الحياة المادية، إلى عطـاء الصفاء الروحـي.
ومن عجائبه أنـَّه يمـرِّن المسلمين على الدعوة إلى الإسلام، فيعيد اللحمة بين المسلم ورسالته، ذلك أنـَّه يحـوِّل التـَّركَ المجـرَّد إلى أكبـر وأنفع فعل إيجابي للإنسانية، ولهذا تجد كثيراً من الناس لايسمعون عن الإسلام إلاَّ في رمضان، وكـم هي تلك القصص التي يجد المسلم فيها نفسه يتحول إلى داعيـة رغما عنه، عندما يسأله من حوله: لماذا لا تأكـل؟! فيقول لأنه رمضان وأنا صائم، فيسألونـه عن الصوم، فيحدثهـم عن الإسـلام.
وأخيـرا فها هـو الإسلام يبهر العالم بإنجازه العظيم في رمضـان، عندما يضـرب في وجـه العولمة المادية المتوحشـة التي أهلكت الحرث والنسل بما غرست في العالم أجمع من جشع ثالوث المادة، والشهوة، والمنفعة، يضـرب في وجهها بقيم تنقية الروح، وتهذيـب الخلق، وصنـاعة الخيـر المتعدي.
ليقول لأعداء الإسلام: هؤلاء هم المسلمون الذين تسعون بكل سبيل لتلويث سمعتهم، هـا هـم يترفعـون عن جشعكم البغيض، و رأسماليـتكم الخبيثة، بالصيـام، ليعملوكـم ما لا تعرفون، عن تصفية الروح بالخير، والإحسان، والرحمة، والإيمـان.
فاللّهم اجعل لنا من بركة رمضان الحظ الأوفـر، والنصيـب الأكبـر، والقـدر الأكثـر .
_________________________________
المصدر: طريق الإسلام