تاريخ النشر الأصلي 2018-09-18 09:16:21.
كان يوم عاشوراء: بمثابة إعلان إسلامي مُبَكِّرٍ لتحقيق إنسانية الإنسان المفقودة واستعادته لذاته الفقيدة وكرامته الجريحة…
(مقتطف من المقال)
بقلم/ د. عطية الويشي
على القدر الذي تبدو به ذاكرة التاريخ مشحونةً بالأحداث والمواقف والذكريات الجديرة بالتَّوَقُّفِ والتَّأمُّلِ والاستقراء والتحليل والاستنتاج… بَيْدَ أنَّ أيّامًا بِعَيْنها كانت بمثابة علاماتٍ فارقَةٍ ومعالمَ هاديةٍ مُشْرِقَةٍ… لم تَزَلْ حَيّةً مُتَوَهِّجَةً في ذاكرتنا نحن البشر… فكانت نَفْحاتٍ رَبّانِيّةً وإلهاماتٍ سَنِيَّةً بِسِرِّ الحياةِ وبقيمة الاستخلاف في هذا الوجود الذي تُلِحُّ حاجته إلى النماء والتَّطَوُّرِ والتَّجْدِيدِ والتَّنَـوُّرِ!… ولعل القيمة التاريخية لهذه الأيام: تكمن فيما تجود به من عبر وعِظاتٍ ودروس… تُمَثِّلُ مستودع الخبرة البشرية وموردها الذي لا ينضب خيرُه ولا تَنْفَدَ فوائدُه!…
وَيَوْمُ عاشوراء من أيام الله الخالدة، التي حظيت باهتمام الإسلام وعنايته وتقديره… تأسيسًا على ما ارتبط به من ذكريات أراد الله أن يكتب لها الخلود في الخبرة البشرية، فتبقى معانيها ودلالاتها العظيمة: حَيّـةً في وجدان كُلِّ جيلٍ ورعيلٍ من الأولين والآخرين… يقول تعالى: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” (إبراهيم:5).
والحقيقة، أنّنا نرمي من وراء فريضةِ التَّذَكُّرِ هاته إلى إعادة إنتاج الفعل الحضاريّ الإسلامي بطريقةٍ تليقُ بخير أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس!… وهي محاولة تمتزج فيها المعطيات التاريخية الحيةُ بحركة الواقع في الوعي البشريِّ، فيحدث التناغم المرتجى بين الماضي والحاضر والمستقبل.. بين الأصالة والمعاصرة.. بين التقعيد والتجديد… الذي يُهَيِّئ الإرادة الحرة المستنيرة بوحي الله عزّ وجل الإرادة العازمة الجازمة الحاسمة واللازمة لِتَفعيل مُقَوِّمات المخاض الحضاريِّ لِميلادِ جيلٍ تَكَوَّنَتْ ملامِحُهُ واسْتُنْسِخَتْ قسماته من قبس هدايات النبوّةِ الأولى.. تلك الهدايات التي تُشَكِّلُ أحَدَ معالم نهضتنا الحضارية الإسلامية الكبرى المبنية على تقدير إنسانية الإنسان واحترام حريته وصيانةِ حقوقه!. ولأجل توفير أعظم قدرٍ من حظوظ العناية بهذه الحقوق والحريات اختار الله للمؤمنين به صفة العبودية ليكون مجرد العدوان عليهم وانتهاك حقوقهم ضربًا من معاداة الله وموالاتهم: موالاة لله ورسوله. فلقد فرض الله حمايتهم من غيرهم بسياج العبودية له وتوعَّدَ الله مَنْ يتعرض لهم بالحرب «من عادى لي وَلشيًّا فقد آذنته بالحرب».
وتَقْدِيرًا ليومِ عاشوراء، وعِرفانًا بفضله وبحكمةِ مشروعية الحفاوةِ الإسلامية به: سارت رواياتٌ عديدةٌ… منها ما رُوِيَ من طريق عبيد الله بن أبي زيد: أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ سُئلَ عَنْ صِيامِ يومِ عاشوراء، فقال: «ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا، يطلُبُ فَضْلَهُ على الأيام إلا هذا اليوم«{[1]}. ولأجل الإبقاء على معاني وَدَلالاتِ ذلك اليوم حَيّةً في نفوس المسلمين على الدوام: أن ارتَجَى النبي -صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أقامها بِالصِّيامِ بخير الله الجزيل… وَأيُّ خيْرٍ أجزَل مِنْ غفران الله ذنُوبَ الإنسانِ وإصلاحِ شأنِهِ؟!.. فعن أبي قتادة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن صيام عاشوراء فقال: (إني لأحتسب عند الله أن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي قَبْلَهُ){[2]}؛
ولذلك، نجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يَرْوِي عنه جابر بن سَمُرَة رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فُرِضَ رمضانُ، لم يأمرنا، ولم يَنْهَنا، وَلَمْ يَتَعاهَدْنا عِنْدَهُ»{[3]}.
ولعل في الوعد برجاء المثوبة من خلال التوصية بالصوم والتأكيد عليه: ما يعكس معنى الحَضِّ والتحفيز على إحياء تلك الشعيرة واستبطان مقاصدها وأسرارها وحِكَمِها الجليلة… حَتَّى لَقَدْ بلغ الصحابة رضوان الله عليهم من حرصهم على إحياء ذكرى عاشوراء: أنهم كانُوا يُعَوِّدُون الصبيان على صومه، فعن الرُّبَيْعِ بنت مُعَوِّذَ{[4]} قالت: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: مَنْ كان أصبح صائمًا فليُتِمّ صومَهُ. وَمَنْ كان أصبح مُفْطِرًا، فليتم بقية يومه. فكنا بعد ذلك نصومه وَنُصَوِّمُ صبيانَنا الصِّغارَ مِنْهُم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار{[5]}. وفي الموطأ: أن «عمر بن الخطاب أرسل إلى الحارث بن هشام: أن غدًا يوم عاشوراء فَصُمْ وأمُرْ أهلَكَ أنْ يَصُومُوا«{[6]}؛
وَتَكْمُنُ القيمة الحضارية لـ عاشوراء في كونِهِ يومًا من أيّامِ اللهِ الخالِدَةِ، التي ارتَبَطَتْ بإنسانِيَّةِ الإنسانِ وكَرامَتِهِ؛ وَهُوَ اليومِ الذي دُشِّنَ فيه المشروع الإصلاحي الرَّبّاني لإقرار حقوق الإنسانِ وحُرّياتِهِ وإعادَةِ ذلك الإنسانِ المُسْتَضْعَفِ إلى مَوْقِعِهِ الحقيقي على خريطة الاستخلاف والإمامةِ وانْتِزاعِ مقاليد السيادة من أيدِي المستبدين أدعياءِ الربوبية الظالمين المُتَألِّهِين في الأرض.. وليكونَ الدين كُلُّه لله!.
ولقد كان بديهِيًّا أنْ تحدُثَ مواجهةٌ حَضاريَّةٌ حاسمةٌ بين فئةٍ مؤمنة تسعى إلى التَّحَرُّرِ والانعتاق مِنْ نِيـرِ الطَّواغِيتِ المستبدةِ بحياةِ البَشَرِ بغير حَقٍّ أو جدارةٍ أو استحقاق!…فالسيادة: عهدٌ بالرعاية وعقدٌ بالاحترامِ والتقدير والعناية… وَلَيْسَتْ قَهْرًا وإكراهًا وَجَبَروتًا وَغَدرًا وَخِيانةً للأمانةِ!…
وفي مُحاولَتِهِ استِنْهاضَ الهِمَمِ واستنْفارَ العزائمَ… أخذًا بأسبابِ الخلاص والتماسًا وَسائلَ التَّهَيُّؤِ للاستخلاف والتمكين واستعادةِ مقاليدَ الأمورِ إلى أيدِي المؤمنين الأُصَلاءِ المُخْلَصِين… تَقَدَّمَ موسَى بِمَشْرُوعِهِ… وَلَقَد قَصَّ علينا طَرَفًا من حيثيات المشروع الإصلاحي الذي حمله نَبِيُّ الله المسلم موسى -عليه السلام- فقال تعالَى: “قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ” (الأعراف: 128-130).
والملاحَظُ، أنَّ الوحيَ الأمين: قد بلغ من حفاوته البالغة بحقوق الإنسانِ وتحريره من كُلِّ سُلْطانٍ قاهرٍ لاختياراته الحضارية وتَخَلُّصِهِ مِنْ جَبّارٍ غالبٍ لإرادته الحُرَّةِ… بِحَيْثُ عُنِـيَ بتخليد كُلِّ موقف ومناسبة وَحَدَثٍ وَحَدِيثٍ يرتبطُ بقيم الحرية وبمناسبات الانعتاق البشري من أغلال الظلم ومن قيود الجبابرة وقهر الطواغيت… فانساقت حُشُودٌ حاشدَةٌ من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية… التي تُعَدُّ بمثابةِ معالمَ كُبرى على طريق الخلاص الإنساني من جبروت الطغاة واستبداد المفسدين في الأرض بغير حَقٍّ… “وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ* مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ” (الدخان:31).
بل وَقَنَّنَ سُبَلَ تأصِيلِ تلك القيم في النفس البشرية وتكريس مبادئها في دنيا الوجود، فقد أرَّخَ لِذِكْرَى عاشوراء تأريخًا حَفِيًّا… إنْ دَلَّ، فإنما يدل على عنايته الفائقة بتلك القيم والمبادئ المجيدة المرتبطَةِ بذلك اليومِ الخالِدِ في تاريخ البشرية.. فقال تعالى: “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ” (إبراهيم:6).
لقد أراد الله أن يربِطَ الذاكرةَ البَشَرِيَّةَ بأيامَ الله الخالدة في الذين خَلَوا من قبلهم- على تعاقبِ أجيالهم وَتَقَلُّبِ أحوالِهم بين القوة والتمكين والاستضعاف.. بين الأمن والخوف.. بين رغد العيش والسَّعَةِ والرَّغَدِ والسعادة والرَّخاء.. والشِّدَّةٍ وَالضيق والضَّنْكِ والنَّكَدِ والشَّقاء… بين الأفراح والأتراح والأقراح… وحتى تَتسنى للبشريةِ أُمَمًا وشُعُوبًا وحضارات وأفردًا وجماعات؛ وسائل الإفادة والتَّذَكُّرِ الواعي لأيامِ اللهِ: جَعَلَ فِي مُجَرَّدِ التَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ والاستحضارِ: عبادةً وشعيرةً وَقُرْبَةً إلى الله سبل السداد ربط الله تعالى الواقع بالتاريخ في سياق مترادف الأحوال والملابسات، فيرجع جل وعلا بذاكرة القوم من بني إسرائيل إلى ماضيهم القريب والبعيد في ضوء الواقع المعاش مُبْرِزًا «نِعْمَةَ النَّجاةِ مِنْ سُوءِ العَذابِ الذي كانوا يلقونه من آل فرعون.. يُسامُونَهُ سَومًا فلا يفتر عنهم ولا ينقطع. ومن ألوانه البارزة: تذبيح الذكور من الأولاد، واستحياء الإناث، منعًا لتكاثر القوة المانعة فيهم، واستبقاءً لضعفهم وُذُلِّهِم. فإنجاء الله لهم من هذه الحالة ينبَغِي أنْ تُذْكَرَ لِتُشْكَر»{[7]}. وأيُّ نعمةٍ أجزل وأجمل من أن يخوض الإنسان غمار حياته مُسْتَأنِسًا باللهِ رَبِّهِ، حُرًّا طليقًا بِفِكْـرِهِ، عزيزًا بقيمِ ومبادئ دينهِ… دون يُداخِلَهُ الخوفُ والتَّرَقُّبِ والإحساسِ بالوحشةِ والضيق وتنغيص الحياة وعدمِ الأمانِ من شَغَبِ الجَلاّدينِ وسَدَنِةِ الطُّغاةِ؟!…
ولعل اعتراف الإنسانية المؤمنة بنعمة ربها وإقرارها بِمِنَنِهِ الجزيلةِ الجَلِيلَةِ – وفي مقدمتها نعمة الأمن والأمانِ… ليس بِتَمْتَماتِ الثناءِ ولابِتهويمات الشُكْرٍ الشَّفَوِيِّ المُجَرَّدِ… ولاسيما حين يَفْشُو الظلم والبَغْي، ويعلو الباطِلِ ويَظْهر في الأرضِ الفساد… ما يُوحِي بأنَّ حالةً من عدم المُبالاةِ وخللٌ في تقدير المسئولية الإيمانية والأخلاقية المنوطة بالإنسانِ ككائنٍ مُسْتَخْلَفٍ في هذا الوجود مُسْتأمَنٍ على ما فيه!… وإنما شُكْرُ نعمة الخُرُوجِ أنفاقِ العَسفِ والقهر والغواية… إلى آفاقِ الحرية والأريحية والنَّجاةِ والهِدَايةِ: هو «الاستقامة على الهدى في مقابل النجاة»{[8]} وَمُحاولةِ الانتشار بدعوة الله والانتصارِ للمظلومين والمقهورين المغلوبين على أمرهم!…
ولذلك، نجد أنَّ الإيمان لا سواه: هو طريق الحياة الآمنة المطمئنة… ولَعَلَّ من أجَلِّ نِعَمِ الله على الإنسانِيَّةِ المؤمنة الموحِّدَةِ: الأمن والأمان؛ فَهُما أهمِّ روافد الإحساس الحقيقي بمعنى الحياة وبقيمة الوجود، كذلك هما من أهَمِّ مؤشِّرات حرية وكرامته وحقوقه المصونة!… ولعلنا نلاحظ تعبير موسى عن الشعور بالخوف متكررًا في القرآن الكريم.. وهو ما يعكس حالة من الافتقاد النسبي لِلأمان في ظِلِّ الملاحقات الأمنية التي لا يهدأ دبيبها كُلَّما تحسست أمرًا أو تَجَسَّسَتْ خَبْرًا عَمّا تَظُنُّه في المصلحين تهديدًا لمُلْكِها المزعوم… ولكن رحمة الله كانت تدركهما في الوقت المناسب، فكان الأنس به عِوَضًا عن محاولات الاستهداف الفرعوني المستديم “قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى” (طه:45،46).
ولقد ضرب موسى وهارون أروع الأمثلة في ملحمةِ النضال السياسي من أجل استعادة حقوق الإنسان واستردادِ حريته المسلوبة.. واستِنْقاذِ الإنسانِ مِنْ حالةِ الاستضعاف والذُّلِ والهوانِ.. ومن حَمْأةِ القهر والعذاب الذي تَشَكَّلَ في صورٍ مريرة… يقول تعالى: “فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى” (طه:47).
فلقد كان سُلطانُ فرعون: قهرًا دينِيًّا وإكراهًا عقديًّا… قال تعالى: “قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (القصص:38).
وكان كذلك قهرًا فكريًّا:”قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” (غافر:29).
وكان ازدراءً للرعية واستخفافًا بهم واستغفالاً إيّاهم، يقول تعالى: “وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ. فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ” (الزخرف:51-54).
بل إنَّ فرعونُ اسْتَغْبَى النُّخبة واستناخ عقولهم.. فما أبدوا له تَمَنُّعًا أو تَمَنُّعًا أو اعتراضًا… قال تعالى: “وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ” (الزخرف:51)… وهو الأمرُ الذي أسهم بدرِهِ في تفاقُمِ مُشْكِلاتِ المجتمع والحكومة- وفي مقدمتها: مُشْكِلَةُ الحريات وحقوق الإنسان، وانسداد آفاقُ الإصلاحِ… وتَضاؤلِ فُرَصِ الإنصاتِ لِصَوتِ الحِكْمَةِ وَلِنِداءِاتِ إنقاذِ البلادِ مِمَّا هِيَ صائرَةٌ إليهِ من الخُسرانِ وَالبوارِ!…
ذلك، ولم تكن النُّخْبَةُ عندَ مستوى همومِ الأمة، بل كان ديدنها بَثَّ الفتنة والوقيعة بين الحاكم الظالمِ وبين الفئةِ المؤمنة المُوَحِّدَةِ في المجتمع لِيَخْلُو لها جَوُّ التّنَفُّعِ والارتزاق والمُتاجَرَةِ بِمصالح الشَّعْبِ لِحِسابِ فئاتٍ أميبيةٍ محدودةٍ… “وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ” (الأعراف:127). فقد كانت تلك دءوبة على تشويه سُمْعَةِ المصلحين والوشايةِ بهم والافتراء عليهم وملاحقتهم بالدِّعاياتِ المُغْرِضَةِ… قال تعالى: “فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ” (الشعراء:53، 54)… حَتّى لقد تعالت في إثرِ تلك الفتن نَبْرَةُ التَّحَدِّي وتصاعَدَت وتيرة المواجهة واحتدامِ الأمور… ويبدو أنَّ القيادةَ الفرعونية كانت على استعدادٍ لِتَشَرُّبِ هذه الوشاياتِ والانفعال بها… قال تعالَى: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ” (غافر:26).
ولقد تركت ملحمة عاشوراء صَدًى إيمانِيًّا واسِعًا في أوساط المصريين- بعد غرق فرعون وزوال سلطانه وبوار مشروعه السياسي والحضاريِّ الظالم!. ولِذلك، كانَ طبيعيًّا أن يحتفي الإسلامُ بيومِ الخلاص من فرعون وتَحَطُّمِ آمالهِ على صَخْرَةِ اليقين الإيماني الذي تأسَّسَ في ضوئهِ مشروع التوحيدِ الإسلامي وروافدِهِ الإصلاحِيّةِ… حيث تدلنا تلك الشواهد جميعًا، على عناية الإسلام المبكرة بتوسيع قاعدة المعرفة والإلمام بقضايا الحُرّياتِ وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في البنية المعرفية والأخلاقية والقيمية للإنسانية المؤمنة برسالتها الاستخلافية في هذا الوجود،، ولم يستثن من حركة التثقيف بهذه الفريضة الحضارية صغيرًا ولا كبيرًا ولا ذكَرًا ولا أُنْثَى!.. فلقد اجتاز عمر رضي الله عنه بصبيان يلعبون، فهربوا إلا عبدالله بن الزبير؛ فقال له عمر: لِمَ لم تفِر مع أصحابك؟ قال لم يكن لي جُرم فأفر منك، ولا كان الطريق ضيقاً فُأوسِّعلك«{[9]}.
ولذلك، كان يوم عاشوراء: بمثابة إعلان إسلامي مُبَكِّرٍ لتحقيق إنسانية الإنسان المفقودة واستعادته لذاته الفقيدة وكرامته الجريحة… بل كان ذلك اليومُ إعلانًا بالثورة على الظلم بكافّة صُوره وأنماطه ونُظُمه وأساليبه ووسائله… ومنابذة للظالمين والطُّغاة والمجرمين والمتكبرين في البلاد، الذين أغرقوها في الظُّلْمِ وأظهروا فيها الفَساد فَأذَلُّوا أعناق العباد واستحلُّوا الدِّماء والحرمات وأزهقوا أرواح… فجاء موسى لِيَضَع حَدًّا لهذه المعاناة بتكليف من الله تعالى حيث قال: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى“(طه:44-48).
ولقد شاء الله تعالى أنْ تكون حركة التصحيح في مسار الخلافة الإسلامية قبسًا من أقباس التنزيل القرآني، وضربًا من هداياته المحتفية بالحرمات والحريات وحقوق الإنسان… فكانت محاولة سبط النبِيِّ صلى الله عليه وسلم إعادة أمور الخلافة إلى مجاريها المهتدية بمنهاج النبوة، وترشيد الأفكار التي راجت حول ورثية الخلافة وتحول أمر الأمة إلى نظام الملك العضود … فكانت وقفاته رضي الله عنه أحَدَ المرايا العاكسة للجهاد من أجل الحريات وحقوق الإنسان… جريًا على سنن الأنبياء وسيرًا على منهج النبوة الخاتمة… وعلى أيِّ وجهٍ من الوجوه، تبقى ذكرى عاشوراء علمًا على الاحتفاء الإسلامي المبكر بقضايا الإنسان وكرامته المتأصلة بمقررات الوحي وهدي النبوات ومن اهتدى بهداهم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها!.
المصادر والمراجع
_______________________________________
{[1]} رواه مسلم في كتاب الصوم- حديث:1132.
{[2]} رواه ابن ماجة في كتاب الصوم- حديث: 1738.
{[3]} رواه مسلم في صحيحه- كتاب الصيام- حديث رقم: 1138.
{[4]} الرُّبَيِّع بنت معوِّذ بن عفراء الأنصارية من بني النجار . لها صحبة ورواية، وقد زارها النبي-صلى اللهعليه وسلم- صبيحة عرسها صلة لرحمها . عَمَّرَت دَهْرًا، وروت أحاديث. حَدَّثَ عنها: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعبادة بن الوليد بن عبادة، وعمرو بن شعيب، وخالد بن ذكوان، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وآخرون .وأبوها من كبار البدريين، قتل أبا جهل. توفيت في خلافة عبد الملك سنة بضعوسبعين رضي الله عنها، وحديثها في الكتب الستة .
{[5]} مُتَّفَقٌ عليه؛ رواه البخاري في كتاب الصوم،حديث: 1690. وكذا مسلم في كتاب الصيام- حديث رقم:1136.
{[6]} رواه مالك- كتاب الصيام- حديث: 35.
{[7]} سيد قطب- في ظلال القرآن- دار الشروق- بيروت 1415هـ- ط23- 4/2088.
{[8]} سيد قطب- في ظلال القرآن- مرجع سابق- 4/2088.
{[9]} عز الدين ابن الأثير الجزري- الكامل في التاريخ- راجعه وصَحَّحَه: محمد يوسف الدقاق- دار الكتب العلمية- بيروت- 1407هـ، 1987م- 4/128.
.