فلسفة الصوم: شهر للثورة (2)

تاريخ النشر الأصلي 2017-06-22 09:06:21.

أما -والله- لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعا، لآل معناه أن يكون إجماعا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرًا كاملا في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه…

مصطفى صادق الرافعي

في ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق، وهو إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.

وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرب الصائم على أن يمنع باختياره من شهواته، مصرا على الامتناع، متهيئا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر، مزاولا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.

وإدراك هذه القوة منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوما من كل سنة قد فرضت فرضا لتربية إرادة الشعب ومزاولته.. فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءا من عمل الإنسان، لا خيالًا يمر برأسه مرا.

أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسا في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها.

لو عمَّ الصوم الإسلامي كل الأرض

أما -والله- لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعا، لآل معناه أن يكون إجماعا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرًا كاملا في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.

شهر هو أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو.

إنها -والله- طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها إلى قانون من باطنها نفسه يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيرا من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الأفكار الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتبسة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.

هذا على الحقيقة ليس شهرًا من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها؛ ولهو -والله- أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها من بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.

وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.

كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم؛ فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183).

وقد فهمها العلماء جميعا على أنها معنى “التقوى” أما أنا فأولتها من “الاتقاء”؛ فبالصوم يتقى المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان، يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.

وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر, ويعمل بالحاضر في الآتي.

وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يتأتى البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها؛ ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة؛ يتقي بها الاجتماع شرور نفسه؛ ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه “قانون البطن”.

ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسمَّاك: “مدرسة الثلاثين يومًا”.

__________________________________

المصدر: بتصرف يسير عن مقال لمصطفى صادق الرافعي، كتاب/ وحي القلم

مواضيع ذات صلة