فوائد الصيام في مواجهة وباء كورونا

د. فتحي الشوك

يحلّ شهر رمضان المبارك هذا العام في ظروف استثنائيّة وبنكهة لم نتعوّدها من قبل في ظلّ تفشّي وباء كورونا وتأثيراته المباشرة على حياة ملايين الأشخاص في جميع أنحاء المعمورة؛ فكثير من البلدان -ومنها العربيّة والإسلامية- في حالة طوارئ وإغلاق، والعديد ملزمون بالحجر الصحي والتّباعد الاجتماعي ومنع التجمّعات لقطع سلسلة العدوى ومحاولة كبح سرعة انتشار الوباء وهو ما يبرّر إغلاق المساجد ومنع صلوات الجماعة ضمن حزمة الإجراءات الوقائية المتّخذة.

الصوم يقوي المناعة لمواجهة كورونا

الصوم يقوي المناعة لمواجهة كورونا

غير أنّ بعضهم استغلّ الفرصة ليناقش فرضية إبطال ركن الصيام لدواع صحّية ونتيجة للظّروف الاستثنائية الطّارئة الّتي نعيشها، ليتساءل البعض عن مدى تأثير الصّيام علينا في زمن الكورونا، وهل يضعف من قدرتنا على مواجهة  وباء كورونا أم أنّ العكس صحيح؟

الصّوم والمناعة

الصّوم ترويض للجسد وتهذيب للنّفس، فوائده الجسدية والنّفسية متعدّدة ومعلومة، وما زال العلم يكشف لنا المزيد منها، وتخصّ الكبد بالخصوص، العثكلة، المعدة، القولون ،الكلى، الغدد، المفاصل، القلب والأوعية الدّموية، الجلد، الوقاية من الأورام، السكّري، النّقرص، الجلطات بأنواعها وكذلك جهاز المناعة. يقوّي الصّوم جهاز المناعة في الجسم ليقيه من أمراض عدّة ويرفع من مستوى جهوزيّته ويحسّن دفاعاته ليواجه العناصر الفيروسيّة أو البكتيريّة أو الفطريات الخارجية المهاجمة.

كما يتحسّن بفضل الصيام المؤشر الوظيفي للخلايا اللّمفويّة عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النّوعية بصفة واضحة، وترتفع نسبة بعض أنواع الأجسام المضادّة، وتنشّط الردود المناعيّة نتيجة لزيادة نسبة البروتين الدهني منخفض الكثافة. وزيادة على ذلك فإن الشحنة الروحية التي يولّدها الصّيام في شهر رمضان تنتج طاقة إيجابيّة ومناخا من الرّاحة النّفسية ممّا يدعم الجهاز المناعي ويجعله في قمّة الاستعداد لمواجهة أيّ تهديد خارجي.

فوائد الصّيام لا تحصر ولا تعدّ وكانت موضوعا لأبحاث العديد من العلماء، يقول “ماك فادون” أحد علماء الصحّة الأمريكيين: “إنّ كلّ إنسان يحتاج إلى الصّوم وإن لم يكن مريضا لأنّ سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتثقله ويقلّ نشاطه، فإذا صام خفّ وزنه وتحلّلت هذه السّموم من جسمه وذهبت عنه حتّى يصفو صفاء تامّا ويستردّ وزنه ويجدّد خلاياه في مدّة لا تزيد على 20 يوما بعد الإفطار، لكنّه يحسّ بنشاط وقوّة لا عهد له بهما من قبل”.

أمّا البروفيسور الرّوسي “نيكولاي بيلوي” فيقول في “كتابه الجوع من أجل الصحّة”: “إنّ على كلّ إنسان أن يمارس الصّوم بالامتناع عن الطّعام لمدّة أربع أسابيع كلّ سنة كي يتمتّع بالصحّة الكاملة طيلة حياته”.

وقد لخّص الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم كلّ ما ذكر في كلمتين اثنتين: “صوموا تصحّوا”. وبالرّغم من فوائد الصّيام الجليّة على الصحّة الجسدية والنّفسية في الظّروف العادية أو الاستثنائيّة والّتي من الممكن الاستعانة بها في مقاومة الجائحة فإن البعض يروّج لبعض مضارّه بغير سند علمي أو دليل، معتمدين على بعض ما استنتج ممّا نعيشه من ظاهرة لم تكشف بعد عن كلّ أسرارها.

وهناك محاولات مستميتة لإيجاد منفذ شرعي لإبطال الرّكن دون جدوى في أمر حسم منذ قرون من فوق سبع سماوات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 183-185).

وباء كورونا يدعونا لأن نصوم

يناقش البعض إمكانية الإفطار في شهر رمضان ويبحثون في ذلك عن عذر ورخصة في حين يعتبرون أنّ الأعمال التلفزيونية الّتي تعدّ للعرض خلال نفس الشّهر من المقدّسات والمحرّمات حتّى ولو كانت سببا لتفشّي الوباء وحصول الكارثة؛ فقد نجحوا خلال عقود من الإفساد الممنهج في إفراغ شهر رمضان من روحه ووظيفته ليتحوّل إلى مناسبة طقوسية نتيجتها عكسية لما أنشئت لأجله. الشّهر الّذي من المفروض أن تكون مهامه ترويض الجسد وتهذيب الرّوح والتحرّر من الشّهوات صار مناسبة للاستهلاك المفرط واللّهث وراء الرّغبات، وصار شهر الخمول والخمود والسّبات وهو الشّهر الّذي أنزل فيه القرءان وتحقّقت فيه للمسلمين أبهى الفتوحات.

شهر الفضيلة صار موعدا موسميا لبثّ الرّداءة وسوء الخلق ونشر الرّذيلة، وصار الاستعداد له بتوفير ما يشبع الفتحات البيولوجية ويستهدف البطن وما تحتها. ومع نهاية شهر رمضان في الغالب ما تكثر أمراض قرح المعدة والقولون وتبرز مضاعفات أمراض السكّري وارتفاع ضغط الدّم والنقرص وتتزايد الجلطات الدّماغية والقلبية، كما تكتسب الغالبية وزنا إضافيا بصفة طردية مع عجز في ميزانيّتها. لقد فقد شهر الصّيام وظيفته الأساسية ولا بدّ من وقفة تأمّل ومراجعة ذاتية لتتحقّق مقاصده الحقيقية وهو ما تدعونا إليه كورونا لمن فهم رسالتها وحلّل شيفرتها.

أطردتنا كورونا من بيوت الله ودفعتنا إلى ملازمة بيوتنا لكنسها وإصلاحها وتطهير أنفسنا ليسمح لنا بالعودة إليها، وهي من منحت لنا الفرصة لترتيب أولويّاتنا وتعديل أوتارنا وتغيير إيقاع حياتنا والتحرّر من عبوديّة معاصرة في عصر يزداد توحّشا وهي نداء لأن نتصالح مع فطرتنا ودعوة لاستعادة إنسانيتنا.

وها هي تتيح فرصة صيام رمضان كما ينبغي ويجب أن يكون، تهذيبا للجوارح وتزكية للنّفوس. قد يبدو للبعض أنّ ما يجري هو كارثة ومحنة ونقمة، لكنّه في حقيقته فرصة للإصلاح، ومنحة ورحمة.

أعاننا الله وإيّاكم على حسن صيامه وقيامه وأخرجنا منه في حال أفضل ممّا كنّا فيه.

——

* بتصرف من “مدونات الجزيرة”.

 

 

مواضيع ذات صلة