ليلة القدر.. سلام هي حتى مطلع الفجر

تاريخ النشر الأصلي 2020-05-19 00:49:08.

إعداد فريق تحرير موقع "المهتدون الجدد"

ليلة القدر من النفحات الربانية والفيوضات الإلهية التي اختص الله تعالى بها شهر رمضان المبارك؛ حيث نزل فيها القرآن، وجعلها الله تعالى منحة لعباده في نهايات صومهم؛ حيث جعل الله تعالى العبادة فيها خيرا من ألف شهر.ليلة القدر

دلالة المصطلح

ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية: “يتكوّن مصطلح ليلة القدر من جُزأين؛ فالأوّل هو الليلة، وتُعرَّف بأنّها: الوقت الذي يمتدّ منذ غروب الشمس وحتى طلوع الفجر، أمّا الثاني فهو القَدر، وقد تعدّدت أقوال الفقهاء في بيان المعنى المراد من القَدر؛ استناداً إلى بعض الأدلّة، ومنها: قوله -تعالى-: {وَما قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدرِهِ}؛ فالمقصود هنا بالقَدر: التشريف والتعظيم، وهي ليلة ذات قَدْر بتنزُّل القرآن والملائكة فيها، كما تتنزّل فيها رحمات الله -تعالى- وبركاته.

ومن معاني القَدْر أيضاً: التضييق؛ كما في قوله -تعالى-: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}؛ والمقصود هنا أنَّ التضييق في هذه الليلة هو إخفاؤها، وعدم تعيينها بوقت مُحدَّد، ولأنَّ الأرض تضيق وتزدحم بالملائكة، ومن معانيه أيضاً أنّ القدَرَ بفتح الدال رديفٌ لمفهوم القضاء؛ أي بمعنى الفصل والحُكم، وقال بعض العلماء في معنى القدْر وسبب تسميتها بذلك: إنَّ الملائكة في هذه الليلة تكتب ما قُدِّرَ من الرزق والآجال من الله -تعالى-، وهذا في قوله -تعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}. والليلة المباركة في هذه الآية هي ليلة القدر.”

فضائل ليلة القدر

جعل الله تعالى لهذه الليلة مجموعة من الفضائل التي جعلتها مميزة على غيرها من الليالي. ومن أهمها:

–  أُنزِلَ فيها القُرآنُ: قال تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1).

– يقَدِّرُ اللهُ سبحانه وتعالى فيها كُلَّ ما هو كائنٌ في السَّنَةِ: قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (الدخان: 4-5). ففي تلك الليلةِ يُقَدِّرُ اللهُ سبحانه مقاديرَ الخلائِقِ على مدارِ العامِ. ويُكتَبُ فيها الأحياءُ والأمواتُ، والنَّاجون والهالكونَ، والسُّعداءُ والأشقياءُ، والعزيزُ والذَّليلُ، وكلُّ ما أراده اللهُ سبحانه وتعالى في السَّنةِ المُقبلةِ، يُكتَبُ في ليلةِ القَدرِ هذه.

– أنَّها ليلةٌ مُبارَكة: قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (الدخان: 3).

– العبادةُ فيها تَفضُلُ العبادةَ في ألفِ شَهرٍ: قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر: 3). فالعبادةُ فيها أفضَلُ عند اللهِ مِن عبادة ألفِ شَهرٍ، ليس فيها ليلةُ القَدرِ. (وألفُ شَهرٍ تَعدِلُ: ثلاثًا وثمانينَ سَنَةً وأربعةَ أشهُرٍ).

– ينزِلُ فيها جبريلُ والملائكةُ بالخَيرِ والبَرَكةِ: قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4).

فتنزِلُ الملائكةُ فيها إلى الأرضِ بالخَيرِ والبَرَكة والرَّحمةِ والمَغفرةِ.

– ليلةُ القَدرِ سَلامٌ: قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر: 5). فهي ليلةٌ خاليةٌ مِنَ الشَّرِّ والأذى، وتكثُرُ فيها الطَّاعةُ وأعمالُ الخَيرِ والبِرِّ، وتكثُرُ فيها السَّلامةُ مِنَ العذابِ؛ فهي سلامٌ كُلُّها.

الحكمة من إخفاء ليلة القدر

اقتضت إرادة الله عز وجل أن يخفي ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، رغم أنه سبحانه وتعالى كان قادرا على تعيينها وتعريفها، وقد اجتهد بعض العلماء في تلمس الحكمة من هذا الإخفاء، ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في “فتح الباري”:

“قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها”.

وقال الفخر الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب”: “إنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه:

أحدها: أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى وليَّه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف… فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان.

وثانيها: كأنه تعالى يقول: لو عينت ليلة القدر وأنا أعلم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك؛ فلهذا السبب أخفيتها عليك.

روى أنه -عليه الصلاة والسلام -: “دخل المسجد فرأى نائمًا، فقال: يا عليُّ نبهه ليتوضأ، فأيقظه عليُّ، ثم قال عليٌّ: يا رسول الله إنك سبَّاق إلى الخيرات، فَلِمَ لم تنبِّهُه؟ قال: لأن ردَّه عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى”.

فإذا كانت هذه رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكيف برحمة الله تعالى.

فكأنه تعالى يقول: إذا علمتَ ليلة القدر؛ فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب.

وثالثها: أنى أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها حتى يكتسب ثواب الاجتهاد

ورابعها: أن العبد إذا لم يتيقَّن ليلة القدر إنه يجتهد بالطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليله القدر؛ فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء، فهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له؛ فحينئذ يظهر سر قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30).

ما يُشرَعُ فيها من أعمال

إذا كانت هذه الليلة بهذه العظمة والفضائل الكبير؛ فهي تستحق منا كل جد واجتهاد، واستثمار كل لحظة فيها عسى الله تعالى أن ينظر إلينا نظرة رحمة ورضا فلا نشقى بعدها أبدا. ومن الأعمال التي يشرع فعلها في هذه الليلة:

– القيامُ: يُشرَعُ في هذه الليلةِ الشَّريفةِ قيامُ لَيلِها بالصَّلاةِ. فعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: “ومن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقَدَّمَ مِن ذَنبِه”.

– الاعتكاف: يُشرَعُ في ليلةِ القَدرِ الاعتكافُ؛ فقد كان رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يعتَكِفُ في العَشْرِ الأواخِرِ؛ التماسًا لِلَيلةِ القَدْرِ. فعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: “من كان اعتكَفَ معي، فلْيعتكِفِ العَشرَ الأواخِرَ، وقد أُريتُ هذه الليلةَ ثم أُنسِيتُها، وقد رأيتُني أسجُدُ في ماءٍ وطِينٍ مِن صَبيحَتِها فالتَمِسوها في العَشرِ الأواخِرِ، والتَمِسوها في كُلِّ وِترٍ”.

– الدُّعاء: يُشرَعُ الدُّعاءُ فيها والتقَرُّبُ به إلى اللهِ تبارك وتعالى؛ فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: “قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إنْ عَلِمْتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القَدرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: قُولي: اللَّهُمَّ، إنِكَّ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فاعْفُ عَنِّي”.

– العَمَلُ الصَّالِحُ: قال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، قال كثير مِنَ المُفَسرينَ:

“أي: العَمَل فيها خيرٌ مِنَ العَمَلِ في ألفِ شَهرٍ، ليس فيها ليلةُ القَدْرِ؛ ففي تلك الليلةِ يُقسَمُ الخيرُ الكثيرُ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه في ألفِ شَهرٍ”.

ليلة القدر واختلاف المطالع

بناءً على كروية الأرض ودورتها حول الشمس، فإن المطالع تختلف على سطحها، وقد أشار الله – عز وجل – إلى هذه الحقيقة في كتابه، فقال رب العالمين: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40] ومقتضى ذلك أن الليل عند قوم يكون نهارًا في الجهة الأخرى، وربما يكون زمن الليل عند قوم بعضه نهارًا عند آخرين، وعلى هذا فإن الشهر يختلف دخولًا وخروجًا بالنسبة لسكان البسيطة وكذا لياليه وأيامه، فتكون وترًا عند قوم وشفعًا عند آخرين… وهكذا، وهنا يثار سؤال:

كيف تحصل ليلة القدر لجميع سكان الأرض مع اختلاف المطالع؟

والمسألة فيها قولان أو احتمالان كما ذكر ذلك الإمام الألوسي في “روح المعاني”:

القول الأول أو الاحتمال الأول:

إن التخصيص بالليل جاء على الغالب رعاية لمكان المُتَنَزَّل عليه القرآن وهو النبي – صلى الله عليه وسلم – وغالب المؤمنين به، وبناء على ذلك يكون جميع سكان البسيطة في ليلة القدر تبعًا لوقت مكة والمدينة، وقد ثبت أن سائر الأقطار الإسلامية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق تتجمع في جزء من الليل، وحيث يكون هذا الوقت نهارًا عند قوم فإن الله يعطي أحدهم لمن اجتهد منهم في ليلة ذلك اليوم، أو اجتهد فيه، ولعل في قول العلماء: إنه يسن الاجتهاد في يومها يكون رمزًا إلى هذا المعنى وهو حصول ثوابها لمَن كان وقتها عندهم نهارًا، ومما يقوي هذا الاحتمال قول أهل الفتوى: برجوع أهل العروض التي يطول فيها الزمن النهاري أو الليلي جدًا – كالبلاد القطبية أو القريبة منها – في تقدير أوقات صومهم وصلاتهم، إما إلى أعدل الزمن على خط طولهم، وإما إلى أوسط الزمن وهو زمان مكان التنزيل والوحي، وهو زمن أهل مكة جريًا على القاعدة التي تقول: إن خطاب الله وأحكامه تكون على الغالب”… والله أعلم.

القول الثاني أو الاحتمال الثاني:

أنه يكون لكل قوم ليلتهم الخاصة بهم وإن اختلفت دخولًا وخروجًا بالنسبة إلى آفاقهم، وتكون ليلة القدر أشبه براكب يبدأ السير من نقطة معينة ويسير في اتجاه واحد، فإنه سيلف الكرة الأرضية كلها حتى يصل إلى النقطة التي بدأ منها، ومعنى ذلك أن ليلة القدر تحصل إلى أهل كل منزل في وقت ليلهم، كما تتنزَّل الملائكة على أهل هذه المنازل على حسب دخول الليل عندهم، ولا يبعد أن يتنزَّل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم، ويعرجون عن مطلع فجرها عندهم أيضًا.

أو يبقى المُتنزَّل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة؛ فيعرجون معًا عند انقضائها.

وما يقال بالنسبة لتنزل الملائكة يقال أيضًا بالنسبة إلى تقديرات الله في هذه الليلة، بأن يقدر الله – عز وجل – على حسب سير الليلة في أي جزء شاء منها بالنسبة إلى مَن هي عندهم أمورًا تتعلق بهم.

ومثل ليلة القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار، وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمع، وسائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرها.

المراجع:

  • روح المعاني للألوسي.
  • مفاتيح الغيب للفخر الرازي.
  • موسوعة الدرر السنية – إشراف علوي عبد القادر السقاف.
  • الموسوعة الفقهية الكويتية.
  • موقع الألوكة.

 

مواضيع ذات صلة