معاملة غير المسلم في السلم والحرب

تاريخ النشر الأصلي 2018-11-11 13:30:47.

لما كانت حقيقة الدين إنما تتجلى عمليًا في إحسان معاملة الناس، فإن مدلول المعاملة واسع يشمل كل علاقات المسلم ومجالات تدينه والتزامه، وهي بذلك تتضمن مقاصد الحديث النبوي: (الدين النصيحة)…

(مقتطف من المقال)

المسلم

الدين المعاملة في علاقة المسلم بالناس وسائر الخلق، التزامًا بأوامر الله تعالى وحدوده، عملا بالعدل والإحسان، في رعاية الحقوق وأداء الواجبات وتحقيق الصلات وفعل الخيرات وبذل النصح وكف الظلم والأذى.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد –صلى الله عليه وسلم- رسول الله الذي بلغنا عن الله تعالى قوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الحج:77).

هذا نداء من الله تعالى للمؤمنين يحضهم على الإقبال عليه سبحانه بأعمال العبادات والمعاملات، في تلازم وتكامل بينها: “وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الحج:77)، فكل أعمال الطاعات عبادة لله تعالى بالاستجابة له فيما يرضيه، سواء في القيام بواجب حقوقه الخالصة كالتوحيد والصلاة والصيام والحج وغيرها، أو في التزام حسن الخلق والمبادرة إلى فعل الخير في معاملة الناس (وافعلوا الخير).

وتحضرنا هنا مقولة وجيزة وجامعة: (الدين المعاملة)، يحسبها كثير من الناس حديثا نبويًا، وما هي بحديث، ولكن معناها صحيح تشهَد له مَقَاصِد الدِّين في كثير من آيات القرآن والأحاديث النبوية، بما تنص عليه من أهمية السلوك والمعاملة في حقيقة التحلي بالإسلام وتطبيقه.

المسلم وحسن معاملة الناس

ولما كانت حقيقة الدين إنما تتجلى عمليًا في إحسان معاملة الناس، فإن مدلول المعاملة واسع يشمل كل علاقات المسلم ومجالات تدينه والتزامه، وهي بذلك تتضمن مقاصد الحديث النبوي: (الدين النصيحة). والنصيحة: إخلاص والتزام وإحسان في كل الأعمال والمعاملات:

فالدين المعاملة في علاقة المسلم بربه وهو يقبل عليه بأداء حقوقه سبحانه، إيمانًا وتوحيدًا وعبادة، على الصدق والإخلاص، سمعا وطاعة وتسليمًا وتعظيما وتوقيرا. في كل ما يقتضيه منه ذلك قلبا وعقلا وجوارح، فيجعل وجوده كله لله عبودية وعبادة: “قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ” (الأنعام :162).

والدين المعاملة في علاقة المسلم بالناس وسائر الخلق، التزامًا بأوامر الله تعالى وحدوده، عملا بالعدل والإحسان، في رعاية الحقوق وأداء الواجبات وتحقيق الصلات وفعل الخيرات وبذل النصح وكف الظلم والأذى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل:90).

إن أخلاق المعاملات وفق الأوامر والنواهي الشرعية هي روح العبادة ولبابها، بل هي برهانها وشاهد صدقها، وإلا فإن اخفاق العبد في مجال المعاملات بالتهاون والتفريط، له عواقب وخيمة على عباداته نفسها، التي قد يكون مصيرها ضياع ثوابها بسبب إساءته في معاملة الناس، كما هو حال المفلس الذي أخبر عنه النبي الكريم وحذر فقال: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟” قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: “إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (أَخْرَجَه مُسْلِم).

فالصلاة وهي عمود الدين، ليست مجرد حَرَكَات تعبدية، لَكِنَّها تُربي صاحبها على التزام الْحَق وَالْصِّدْق وَالعدل، واجتناب الفحشاء والمنكر والبغي، لقوله تعالى: “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ” (العنكبوت:7)، بل هي عَوْن عَلَى الالتزام بِشَرْع الْلَّه وَالْقِيَام بِأَمْره: “وَاسْتَعِينُوا بِالْصَّبْر وَالْصَّلاة” (الْبَقَرَة:45).

والْزَّكَاة لَيْسَت ضَرِيْبَة مَالِيَّة، بل هي طاعة وعبادة انفاق ووَسيلَة لِلْتطُهر وَالْتَّزْكِيَة وتقوية علاقات الأخوة والتعاون: “خُذ مِن أَمْوَالِهِم صَدَقَة تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيْهِم بِهَا وصل عليهم” (الْتَّوْبَة:103).

والْصَّوْم لَيْس عبادة جُوْع وَعَطَش وحرمان، بَل هُو شعيرة تربوية تغذي القلب بالتقوى والجوارح بالانضباط والالتزام: “كُتِب عَلَيْكُم الصِّيَام كَمَا كُتِب عَلَى الَّذِيْن مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُوْن” (الْبَقَرَة:183)، وَقَال صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (مَن لَم يَدَع قَوْل الْزُّوْر وَالْعَمَل بِه فَلَيْس لِلَّه حَاجَة أَن يَدَع طَعَامَه وَشَرَابَه) (البخاري وغيره).

وَالْحَج لَيْسَ شعيرة سِيَاحَة واغتراب، بَل هُو موسم عبادة ودورة تربوية لِلْطُّهْر وَالزُّهْد وَالتَّرَفُّع عَن مَتَاع الْدُّنْيَا ومساوئ الأقوال والأفعال “فَمَن فَرَض فِيْهِن الْحَج فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوْق ولا جدال في الحج” (الْبَقَرَة:197).

وفي مقابل ذلك قد تكون المعاملة السيئة مع الناس سبباً لدخول النار حتى ولو مع الاجتهاد في العبادات، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ – القطع من الجبن- وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد).

إن الإسلام انتشر في بلدان آسيا كالصين واندونيسيا وماليزيا وفي إفريقيا وغيرها بسبب أخلاق المهاجرين والتجار المسلمين الذين ما كانوا فقهاء ولا علماء ولا متخرجين من معاهد إعداد الدعاة، إنما كانوا على الإسلام الصحيح الذي تشهد به أخلاقهم في معاملاتهم للناس بالحق والعدل والإحسان، فكانوا بها قدوات طيبة مقنعة وفاعلة، ترغب في فضيلة الإسلام والاقبال عليه.

ذلك الذي نفتقده اليوم في الكثير من أحوالنا وقد اضطربت الكثير من أخلاقنا وساءت الكثير من معاملاتنا فأضحى التدين عند شريحة من المسلمين تديناً شكليا فاقد الروح، عديم الثمار السلوكية الطيبة.

يقول روجيه جارودي (وكان فيلسوفًا شيوعيا قبل إسلامه): كنت مع مجموعة الجنود الفرنسيين الذين كانوا يحاربون المسلمين الجزائريين في ثورة الجزائر عام 1960م، وتم القبض عليَّ بواسطة مجموعة من المجاهدين المسلمين، وسلموني إلى أحدهم ليتولى إعدامي في الجبل، وحين انفرد بي سألني: هل معك سلاح؟ فقلت له: لا، ليس معي سلاح، فقال: وكيف أقتل رجلاً ليس معه سلاح؟ وأطلق سراحي. قال جارودي: “وبقيَتْ هذه القصة تتفاعل في ضميري سنين كثيرة، حتى قمت بدراسة الإسلام فأيقنت أن هذا المجاهد كان ينطلق في تصرفه معي من واقع العقيدة والأخلاق الإسلامية، فكان لهذا الحادث أثره البالغ في إسلامي الذي هز العالم بأسره.

جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

مواضيع ذات صلة