تاريخ النشر الأصلي 2020-07-27 01:09:27.
محمد عياش الكبيسي
يبرز هذه الأيام الاهتمام الواسع في مجال “الإعجاز العلمي” لدحض موجات التشكيك الباهت التي تديرها دوائر مشبوهة ومعروفة، وقد أسهم ذلك بتعزيز ثقة الشباب بعقيدتهم، مع أن الموضوع ما زال بحاجة إلى الترشيد وتجنب الوقوع في فخاخ المبالغة والاستعجال ودخول بعض “الباحثين” ممّن لم يستكملوا بعد شروط البحث العلمي.
بمستوى أقل يبرز أيضا الاهتمام في مجال “الإعجاز البياني” الذي ربما يشترك مع الأول في بعض النواحي إلا أن الدافع الأظهر دافع ذاتي يتمثل في رغبة الباحث بتذوّق روائع القرآن البلاغية، ولا شك أن هذا المجال هو الذي أبهر العرب وشدّهم بقوة إلى الإصغاء والخضوع لهيبة القرآن الكريم. والملاحظ هنا أيضا أن الباحثين قد يقعون بسهولة في فخاخ التكلف والبحث عن الغرائب والمبالغة في الوصف والمدح والذم، ربما لأن المبالغة مرتبطة ارتباطا وثيقا في البيان العربي، فالشعر الذي يخلو من المبالغة لا يسمى شعرا، حتى قيل: “أعذب الشعر أكذبه”. والباحث في القرآن الكريم عليه أن يبحث في مدلول التعبير القرآني بما يناسب الصدق والواقع، وأن ينأى بنفسه عن أن يتذوّق القرآن الكريم بالطريقة التي يتذوق بها شعر أبي تمام أو المتنبي أو البحتري.
يبقى أمامنا الآن سؤالنا الأهم: أين معجزة القرآن في حياتنا؟
القرآن يا إخوة ويا أخوات إنما هو منهج حياة، وتكمن معجزته الجوهرية في قدرته على بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة والمجتمع الصالح والدولة الصالحة، هكذا أثمرت معجزة القرآن الباهرة في جيل الصحابة -رضي الله عنهم- فحوّلهم من أشتات يتنازعون على الماء والكلأ ويسجدون للحجر والشجر إلى أمة تنتج العلم وتصنع الحضارات، وتستقطب طاقات الجميع في أخوّة إيمانية لا مثيل لها، حتى تساوى بلال العبد الأسود مع أبي سفيان زعيم قريش بل وزاد عليه!
ربما نستطيع بسهولة أن نلقي باللائمة فيما يخص وضعنا الحالي على الأنظمة الحاكمة، والدوائر الخارجية “المتآمرة”، لكن الحقيقة الظاهرة أيضا أن الخلل بات يهددنا في داخل نفوسنا وفي أضيق علاقاتنا، حتى بين العاملين الذين نذروا أنفسهم للتغيير والإصلاح، فالتنابز بالألقاب وما يصحبه من تنافس وتباغض وتحاسد لم يعد سمة الأحزاب السياسية المتنافسة على فتات السلطة، ولا سمة الشركات التجارية المتنافسة على حطام المال، بل صار ظاهرة كذلك حتى بين المتحدثين عن الله!
إنني أقول لكم بوضوح: إن معايير الحق والباطل والصحيح والفاسد لم تعد تستند إلى المعتقدات النظرية المجردة، ولا الاستدلالات المنطقية والفلسفية بقدر استنادها إلى منظومة القيم ومخرجاتها الظاهرة في كل أمة أو فكرة، وإن العالم وهو يصرخ اليوم تحت وطأة الظلم والعنصرية والطبقية واستعلاء الإنسان على أخيه الإنسان بوحشية وعدوانية ليتطلع إلى النهج الذي يأخذ بيده نحو الخلاص.
إننا لو تمكنا اليوم من استجلاء قيم القرآن الكريم ومنهجه في إدارة هذه الحياة وطريقة استجابته لتحدياتها ومشكلاتها فإننا سنختصر الطريق كثيرا، وربما سنستغني عن خوض معارك “الشبهات”.
إن كتب التفسير على اختلاف مناهجها تعدّ ثروة معرفية ودينية ضخمة، لكننا نخطئ كثيرا حينما نحاول أن نقدّم القرآن الكريم للعالم من خلال تلك التفاسير، وسيكون خطأنا أكبر حينما نهمل تلك الثروة ونسارع وراء دعاة (التجديد) الفارغ، الذي يهدف إلى هدم الثوابت والتشكيك بكل ذلك التراث أكثر من قدرته على تقديم الحلول العملية لمشكلات هذا العصر.
إن المنهج الأسلم والأحكم والأنفع؛ أن نتدبّر القرآن الكريم باعتباره منهج حياة قبل كل اعتبار آخر، وأن نتدبّره باعتماد قواعد التدبّر العلمي المستندة إلى (النص+العقل+اللغة)، مستهدين بإضاءات المفسرين السابقين في كل تراثنا المجيد دون (تقديس) ولا (تبخيس)، ثم نصوغ ما نستنبطه ونستنتجه بلغة العصر وأسلوبه وأولوياته المعرفية والعملية، ونقول للعالم بكل ثقة وحب: هذا ما عندنا فأرونا ما عندكم، ويدنا على يدكم لنتعاون من أجل إنقاذ هذا الإنسان، ومن أجل أن نرسم معالم البهجة والسعادة في هذه الحياة.
* المصدر: بتصرف يسير من إسلام أون لاين.