من مقاصد الشريعة في الحج

تاريخ النشر الأصلي 2015-08-31 13:22:34.

بقلم/ د. عارف عوض الركابي

من مقاصد الشريعة في الحج

الطواف

 

في هذه الأيام يبدأ -بتوفيق الله تعالى- تفويج الحجاج لأداء الحج لهذا العام، وإني أسأل الله تعالى أن يوفق جميع الحجاج حتى يكون حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وأن يكتب لهم السلامة والعافية، وأن يعودوا سالمين غانمين، وأن يكون حجهم سببًا لدخول الجنة، إن ربي سميع الدعاء.

وقد رأيت أن من المناسب أن أوجه بهذه المناسبة رسالة للإخوة والأخوات الحجاج عموما، وخصوصًا منهم الحجاج من المسلمين الجدد، وإلى من يتعلق بعض موضوعات رسالتي هذه بهم عمومًا، فأقول:

أولًا: أحمد الله تعالى أخي الحاج أن وفقك لتكون من حجاج بيته هذا العام، وأشكره على هذه النعمة العظيمة، فإن كثيرًا من إخوانك وأخواتك المسلمين يتمنون أن يكونوا في ركب الحجيج، إلا أن ذلك لم يتم لهم، إما لعجز مادي أو بدني أو غير ذلك، فأكثِر من الحمد لربك واشكره على هذه النعمة، وقد قال الله تعالى: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ وقال تعالى: ﴿واشكروا لي ولا تكفرون﴾، وأكثر من دعاء الله تعالى لأن يوفقك ليكون حجك مبرورًا وسعيك مشكورًا، وأن يوفقك لإتمامه وأدائه كما فرضه الله تعالى.

ثانيًا: أخي الحاج، إن حج بيت الله هو أحد أركان هذا الدين العظيم، فالإسلام قد بني على خمسة أركان -كما تعلم- والحج هو أحد هذه الأركان، ولذلك فإن منزلة هذه الفريضة منزلة عظيمة، ومقامها مقام كريم، وقد شرع الله تعالى الحج وبه تتحق كثير من المقاصد الشرعية التي تظهر بكل وضوح في شعائره وعباداته وأذكاره ومواقفه، وقد قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: ﴿وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ وقال الله تعالى: ﴿الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب﴾، فعليك أخي الحاج بإدراك ما قد هيأت نفسك له وما ستقدم عليه، عليك بمعرفة مكانة هذا الركن العظيم، وثوابه الجزيل، وعليك بإدراك مقاصد التشريع فيه، وفضيلة الزمان والمكان والأعمال التي ستؤديها فيه.

ثالثًا: من المؤكد أنك تعلم أخي الحاج حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري ومسلم.

هذه وصية من نبيك الكريم الذي هو أحرص علينا جميعًا حتى من أنفسنا، وقد قال الله تعالى: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾.

إن مما ينبغي عليك إدراكه قبل أن تدخل في هذه الفريضة، أن تعرف معنى “الحج المبرور”، فما هو الحج المبرور؟ وكيف يكون حجك مبرورًا؟ ولطالما أن دافعك من حجك أن تؤدي هذه الفريضة، وأن تحصل على الأجر والثواب من الله، وأن يكون ذلك سببًا لدخولك الجنة، فإنه ينبغي عليك أن تعرف كيف يكون حجك مبرورًا، ثم تجتهد بعد تلك المعرفة في تحقيق الأسباب والشروط التي يكون بها حجك مبرورًا.

وقد جاء في تفسير “الحج المبرور” معانٍ كثيرة، منها أنه: الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق، وكانت النفقة فيه من المال الطيب، وقيل: المقبول، وقيل: الذي يدفع الحاج فيه زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وقال القرطبي -كما في فتح الباري-: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه: الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل.

رابعًا: يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه، أذكرك أخي الحاج بأهمية الإخلاص لله تعالى في كل العبادات والأعمال التي تتقرب بها إلى الله تعالى، وكن على يقين -دائمًا- أن الله تعالى لا يقبل العمل الذي لا يكون خالصًا له، وأراد به العامل وجههُ وحده سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾ وقال الله تعالى: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا﴾ وقد قال العلماء في تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿عملًا صالحًا﴾ قالوا: هو الذي يكون 1. خالصًا لوجه الله تعالى، 2. وصوابًا موافقًا لسنة النبي عليه الصلاة والسلام.

فاحذر كل الحذر -أخي الحاج- من الرياء والسمعة، وكن على حذر من أن يتلاعب بك الشيطان فترائي بحجك، ويكون همك ودافعك أن يقال عنك “حاج”، أو أن تُذكر بذلك، ولا يكن خفيًا عليك أن ربك عز وجل غني عن كل عمل أشرك العامل فيه معه غيره، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) رواه مسلم. هل ترضى لنفسك أن يكون عملك هباءً منثورًا؟! هل ترضى أن يكون نصيبك وحظك من حجك التعب والسفر والنفقة دون أجر يُكتب أو ذنب يُمحى؟!
فعليك أخي الحاج بمجاهدة نفسك لأن يكون عملك خالصًا لوجه الله تعالى، وأكثر من دعاء الله تعالى بأن يجنبك الشرك صغيره وكبيره، وأكثر من الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم). واعلم أن إخلاصك لله تعالى في هذه العبادة (الحج) يكون بعلمك أنه فرض من فرائض الله تعالى، وأن الله تعالى شرعه لتحقيق ذكره وعبادته، وأن الله وحده هو الذي يجازي عليه، وأن قبوله له سبحانه وحده، وتدرك أيضًا أن أداءه كما فرض الله من أسباب رضا الله تعالى عنك، ومن أسباب دخول الجنة، وتدرك أيضًا أنك تحقق بهذه الأعمال عبوديتك لله تعالى الذي خلقك وأوجدك لتكون عبدًا له سبحانه، وتتذلل له وتدعوه وتخضع له، فهو إلهك وسيدك وربك، حل جلاله وتقدست أسماؤه سبحانه وتعالى، ويكون بتعظيمك لتلك الأعمال والشعائر والأماكن والأزمان التي عظمها الله تعالى وأمر بتعظيمها، فإذا حققت هذه الأمور وما يتعلق بها، فإنك بإذن الله تكون ممن أخلص حجه لله سبحانه وتعالى.

خامسًا: أخي الحاج لقد جهزت -وربما شاركك في ذلك من حولك- فتم تجهيز أغراض سفرك وتم دفع الرسوم على مختلف جهاتها، وتم عمل التأشيرة، واستخرجت التذاكر، وتم تحديد وقت السفر والمجموعة التي ستكون من ضمنها وبرنامج التفويج … إلى غير ذلك مما له تعلق بسفرك، وأهنئك على توفيق الله تعالى لك في ذلك.

لكن اسمح لي بهذا السؤال والذي ليس له باعث إلا محبتك ومحبة الخير لك، وإن من المعلوم في ديننا العظيم أنه لن يكتمل إيمان أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، وسؤالي هو: كما أن كل هذه الأمور وغيرها قد تم تجهيزها، فهل يا ترى وبنفس الاهتمام قمت بتعلم أحكام الحج؟ هل علمت أنواع النسك؟ وعرفت الفرق بين الإفراد والقران والتمتع؟ وما الذي ستؤديه منها؟ هل تعلمت صفة الحج وأركان الحج وواجباته وسننه ومستحباته؟ هل علمت ما هي محظورات الإحرام؟ هل عرفت أعمال الحاج في أيام الحج؟ هل علمت ما هي منى؟ وما عرفات؟ وما مزدلفة؟ وما الجمرات؟ وما المبيت الواجب والمبيت المسنون؟ إلى غير ذلك مما يجب عليك معرفته.

إن من المؤسف أن كثيرًا من الحجاج يقدمون إلى الأراضي المقدسة ولا يعلمون عن ذلك شيئًا! بل إني قد رأيت بعض الحجاج وهم بلباس الإحرام في يوم التروية بمنى ويسألون: أين نحن؟ وماذا نفعل؟ وأين سنكون غدًا؟ والنماذج والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدًا، بل إن من المؤسف -جدًا- أن بعض إخواننا الحجاج قد يفسد حجه ويبطله بسبب جهله بأحكام الحج أو بعضها، وحال كثير منهم يقول: إننا أتينا ونيتنا الحج إلى بيت الله وأن الله سيتقبله منا على كل حال وبأي صفة!!

فيا أخي الحاج إني أوصيك أن تتعلم صفة الحج وأحكامه قبل سفرك، إما أن تتعلمها بنفسك، أو ليقم من يستطيع ذلك من أهلك أو أصدقائك أو جيرانك بتعليمك، حتى يكون عملك موافقًا لهدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وحتى يقبله الله تعالى، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (متفق عليه، وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول في حجته وهي المشهورة بــ “حجة الوداع” كان يقول: (لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) رواه مسلم.

لا أظنك أخي الحاج تجهل أهمية تعلمك لهذه الأمور، كما لا أظن أنك لا تعلم أن تعلمك لذلك –أحكام الحج- لا يقل في الأهمية عن الأمور التي قمت بتجهيزها، إذًا لماذا يزهد الكثيرون من الحجاج في معرفة أحكام وصفة العبادة التي يقومون بأدائها والتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؟! أليس هذه الأعمال هي التي يرجون قبولها وأن تكتب لهم في ميزان حسناتهم؟!

وفي هذا المقام فإني أقول: إن المسؤولية في ذلك لا تقع على الحاج وحده، وإنما يشاركه في ذلك من حوله من أهله وقرابته، وقد رأينا أن كثيرًا من الإخوة والأخوات يرسلون لأهلهم المبالغ للحج، ولكن لا يكون في اهتمامهم بأهلهم – وخاصة الكبار في السن من الأمهات والآباء – أن يؤدوا الحج أداءً صحيحًا، كما أن المسؤولية أيضًا في ذلك على العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ وطلاب العلم، فإن عليهم أن يبينوا للناس ويوضحوا لهم في خطبهم ومحاضراتهم ودروسهم وبرامجهم أحكام الحج وصفته وآدابه، كما أن الجهات الحكومية المختصة عليها واجب كبير في ذلك، وخاصة وزارة الأوقاف والإرشاد، في القيام بتوجيه الحجاج ودعوتهم وإرشادهم، وتعيين الدعاة (الأكْفَاء) والمرشدين الخيرين لصحبتهم، وهذا كما لا يخفى من أهم أعمال وواجبات هذه الوزارة.

وإن مما يذكر في هذا المقام أن حجاج بعض الدول الآسيوية كماليزيا مثلًا، ومع أنهم لا يقرأون ولا يتكلمون اللغة العربية إلا أنهم يأتون إلى الحج وقد تعلموا وعرفوا أحكام المناسك وأنواع النسك والطواف والسعي وغيرها، وذلك من خلال دراستهم لهذه الأحكام، بل إن من شروط الحصول على تأشيرة الحج في تلك الدول تعلم هذه الأحكام عبر مؤسسات ومعاهد تعمل في هذه الخدمة خصوصًا، وهذا من توفيق الله تعالى لهذه الدول ولهذه الحجاج، إذ إنهم أدركوا أولوية هذا الأمر وأهميته فأعطوه من الأولوية والعناية ما هو جدير بها.

سادسًا: وأختم رسالتي هذه أخي الحاج بتذكيرك أن التلبية من ذكر الله تعالى وهي إقرار واعتراف أن الحمد والنعمة لله وحده وكذا الملك، وبها الشهادة أنه لا شريك له سبحانه، لا شريك له في ربوبيته، ولا ألوهيته، ولا أسمائه وصفاته، والطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار شرعت لذكر الله تعالى، كما أخبر بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويوم عرفة هو يوم الركن الأعظم من أركان الحج وهو يوم ذكر لله ودعاء، والمشعر الحرام بالمزدلفة قد أمرك الله بأن تذكره فيه، قال الله تعالى: ﴿فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين﴾ وأيام منى هي أيام ذكر لله تعالى كما جاء في الحديث، وحتى إذا قضيت المناسك فإن الله تعالى قد أمرك بأن تكثر من ذكره قال الله تعالى: ﴿فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا﴾، فأوصيك أخي الحاج باستشعار هذا الأمر العظيم والاجتهاد فيه، وأن يكون ذكر الله تعالى هو أكثر ما تهتم به؛ تسبح الله وتحمده وتكبره وتشهد أن لا إله إلا هو، وتكثر من الاستغفار، وبالجملة تكثر من ذكر الله تعالى بما ورد في الشرع في الآيات والأحاديث الصحيحة، وتتجنب الأذكار المبتدعة، واحذر أن تكون مثل الكثيرين من الحجاج الذين تذهب عليهم تلك الساعات المباركة في تلك الأماكن المقدسة في القيل والقال وما لا فائدة لهم ولا جدوى فيه، وقد لا يتيسر لهم المجيء مرة أخرى إلى هذه البقاع.

فأسأل الله تعالى أن ينفعك أخي الحاج بما قلته لك في هذه الرسالة المختصرة، – من مقـــاصد الشريعة في الحــــج – كما أسأله -سبحانه- أن يوفقك لأداء الحج المبرور وأن يجعله من أسباب دخولك الجنة، وأن يحفظك حتى ترجع إلى أهلك سالمًا غانمًا قد قبل الله حجك وشكر سعيك وغفر ذنبك، وكتب الله لك الرضا والسعادة في الدارين، والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الشريعة المشارك بجامعتي القصيم وأم القرى.

 

مواضيع ذات صلة