تاريخ النشر الأصلي 2019-05-09 01:50:51.
د. رجب أبو مليح محمد
بداية فإن الصيام الشرعي المعروف هو: الإمساك والامتناع الإرادي عن الطعام والشراب، ومباشرة النساء وما في حكمها، خلال يوم كامل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية الصوم والامتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.
لكن هناك أحكاما أخرى للصيام وأعني بها الأحكام الخلقية والسلوكية التي تعتبر أصل كل عبادة، وقد نسيها البعض أو تناسوها فأصبحت أقل شهرة من الأحكام الفقهية العملية المعروفة.
لقد فرض الله العبادات عامة للارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك، فقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45).
وقال تعالى عن الصلاة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).
وقال تعالى في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103).
وقال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة: 263)، وقال في شأن الصيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
وقال صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
وقال تعالى في شأن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ} (البقرة: 197).
ومن هذا يتبين أن الغاية العظمى من تشريع العبادات هو تحقيق كمال العبودية لله عز وجل ولا بد أن يظهر هذا في أخلاق المسلم فقد حصر وقصر النبي صلى الله عليه وسلم رسالته على إتمام مكارم الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وإذا عدنا إلى الصيام وأثره في الارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك نستطيع أن نقف على بعض هذه الآثار:
أولا- الارتباط بحركة الكون:
إذا أقبل شهر رمضان تشوف الناس لهلاله، وتقلبت وجوههم في السماء، وشنفوا آذانهم أيهم يسبق بمعرفة هذا النبأ السعيد، والحدث العظيم، وعدوا الساعات عدا، حتى تأتي البشرى بانتهاء شهر شعبان وبداية شهر رمضان، وهم لا يفعلون ذلك في سائر الشهور، بل ربما جهل كثير من المسلمين بداية الشهور أو نهايتها، حتى إذا جاء شهر رمضان عادوا إلى طبيعتهم، ولسان حالهم يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. (التوبة: 36).
وتوقيت المسلمين كله بالأشهر القمرية، كما في حول الزكاة، والحج، وعِدَد النساء، وغيرها، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189)، وهو توقيت طبيعي، تدل عليه علامة طبيعية هي ظهور الهلال، فهو يتنقل بين فصول العام، فتارة يكون في الشتاء، وطورًا يكون في الصيف، وكذا في الربيع والخريف، فمرة يأتي في أيام البرد، وأخرى في شدة القيظ، وثالثة في أيام الاعتدال، وتطول أيامه حينًا، وتقصر حينًا، وتعتدل حينًا.
وبذلك يتاح للمسلم ممارسة الصوم في البرد والحر، وفي طوال الأيام وقصارها.
وفي هذا توازن واعتدال من ناحية، وإثبات عملي لطاعة المسلم لربه وقيامه بواجب العبادة له في كل حين، وفي كل حال.
إنها فرصة في هذا الشهر الكريم أن يتنفس المسلم الصعداء، وهو يردد مع الذاكرين عند رؤية هلال رمضان “ربي وربك الله هلال خير وبركة”.
ولا يرتبط المسلمون خلال شهر رمضان ببداية الشهر ونهايته فحسب فهم يترقبون الفجر حتى يمسكوا ويترقبون مغيب الشمس حتى يفطروا، ويعدون أيامه عدا لا يكاد يخطئ فيه أحد فيرتبطون بحركة هذا الكون العابد المسبح لله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء:44).
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} (الحج: 18).
وهذا الترقب والانتظار يتساوى فيه المسلمون جميعا عربا وعجما، فقراء وأغنياء، حكاما ومحكومين، فلا مجال للحظوة والوساطة، فمن أكل أو شرب متعمدا بعد أذان الفجر أو قبل أذان المغرب فصيامه باطل، فلا مجال للتسلق على أكتاف الآخرين وليس هناك صيام للسادة وصيام للعبيد، وليس هناك صيام للصفوة وصيام للعامة، فالكل هنا سواء.
ثانيا- الوقاية من الآثام:
قد خص الله هذا الشهر الكريم بالصيام، والصيام جنة (أي وقاية)، وكل عمل ابن آدم فهو له إلا الصوم فهو لله وهو يجزي به، وأنعم بجزاء الله تعالى من جزاء، وأجمل بكرمه وعطائه من عطاء، والصوم يهذب النفس، ويسمو بالروح والخلق، ويتعلم المسلم أنه ما خلق ليأكل ويشرب ويعاشر النساء، فكل هذا تشاركه فيه جميع دواب الأرض، لكنه خلق لغاية أسمى وهدف أعلى وهو عبادة الله تعالى وتقواه بإتيان ما أمر واجتناب ما نهى، فهي ثورة على شهوات الأرض وجواذبها، فنحن نملكها وهي لا تملكنا فلسنا عبيدا لشهوة ولا أسرى لعادة، حيث إننا أعلنا العبودية لله، وهذا يتضمن نبذ عبودية ما دون الله.
ثالثا- التقييم وتقويم الذات:
وهذا الشهر تصفد فيه الشياطين، ويترك المسلم لنفسه والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53).
فيستطيع أن يميز المسلم بين ما يأمره به بالشيطان وما تأمره به النفس، ومعرفة الداء طريق لمعرفة الدواء فيضع من التدابير الواقية والأسباب المعينة على الارتقاء بالنفس، وتهذيبها وتزكيتها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 7 – 10)، فيحاسب المسلم نفسه فيشارطها ويراقبها ويحاسبها ثم يعاتبها ويؤدبها حتى تسلس له وتخضع لأمر الله فتصبح نفسا لوامة تستحق أن يقسم بها الله ثم ترقى حتى تصير مطمئنة { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27 -30).
رابعا- حراسة الداخل والخارج:
وفي هذا الشهر يهتم المسلم بحراسة مدخل الطعام والشراب، حتى إذا نسي أو أخطأ فإذا به ينزعج انزعاجا شديدا ويحاول أن يخرج ما دخل في فمه من الطعام والشراب حتى يكاد يخرج ما في معدته، على الرغم من رفع الحرج في الشرع عن الناسي والمخطئ، وقد طمأن النبي صلى الله عليه وسلم الناسي فقال: “من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه”.
وعلى الرغم من ذلك يحرص هذا الحرص كله، ولذلك لم يقف الشيطان له في هذا الطريق لعلمه بحرصه عليه، ويقظته وتنبهه من أن يؤتى من قبله، ولكن وقف له في طريق آخر، فأغواه وأغراه بالغيبة والنميمة، وأغراه بإطلاق اللسان في الآخرين يشتم هذا، ويقذف هذا، دون أدنى حرج، وهو لا يعلم المسكين أن طعامه وشرابه ناسيا لا يقارن بما يقترفه من الكبائر الموبقة التي تذهب بأجر الصيام، وهذا ما نبهت عليه الأحاديث الشريفة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب -وفي رواية: (ولا يجهل)- فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل: إني صائم، مرتين” (متفق عليه عن أبي هريرة).
وقال عليه الصلاة والسلام: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
وقال: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش” وكان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهرة للأنفس والجوارح، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام.. ومن أجل ذلك ذهب بعض السلف إلى أن المعاصي تفطِّر الصائم فمن ارتكب بلسانه حرامًا كالغيبة والنميمة والكذب، أو استمع بأذنه إلى حرام كالفحش والزور، أو نظر بعينه إلى حرام كالعورات ومحاسن المرأة الأجنبية بشهوة، أو ارتكب بيده حرامًا كإيذاء إنسان أو حيوان بغير حق، أو أخذ شيئًا لا يحل له، أو ارتكب برجله حرامًا، بأن مشى إلى معصية، أو غير ذلك من أنواع المحرمات، كان مفطرًا.
فاللسان يُفطِّر، والأذن تُفطِّر، والعين تُفطِّر، واليد تُفطِّر، والرجل تُفطِّر، كما أن البطن تُفطِّر، والفرج يُفطِّر.
وإلى هذا ذهب بعض السلف: أن المعاصي كلها تُفطِّر، ومن ارتكب معصية في صومه فعليه القضاء، وهو ظاهر ما روي عن بعض الصحابة والتابعين، وهو مذهب الإمام الأوزاعي، وهو ما أيده ابن حزم من الظاهرية.
وإن كان جمهور الفقهاء قد ذهبوا إلى أن المعاصي لا تُبطل الصوم، ولكن تخدشه وتصيب منه، بحسب صغرها أو كبرها، لكن الجميع مجمعون على أنها كبائر يحاسب عليه المرء ما لم يتب منها.
خامسا- تقوية خلق المراقبة:
الصيام يكسب صاحبه خلق المراقبة لله تعالى، فهو يستطيع أن يأكل ويشرب لكنه لا يفعل طاعة لله تعالى ولذلك لا يدخله الرياء، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به”.
وإذا صحت المراقبة لله تعالى فسيصلح بصلاحها الشيء الكثير وسينعكس ذلك على سلوك المسلم، وسيتضح ذلك في أخلاقه، وإذا راقب الإنسان الله في عباداته ومعاملاته، وأخذه وعطائه، وعلم أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59).
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7).
أقول إذا علم هذا كله واستشعر التوجيه النبوي “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” فقد حاز خيرا كثيرا، وارتقى في سلم الأخلاق والسلوك إلى مدى بعيد.
سادسا- مدرسة لتعليم الصبر:
والصيام يكسب المسلم خلق الصبر، فيصبر على الجوع والعطش والشهوات طاعة لله، والصبر نوعان:
1- صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبر ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
2- وصبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان، وقرناء السوء؛ تأمره بالمعصية وتجره إليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها.
ويكفي أن الله جعله طريقا لنيل الإمامة في الدنيا والدين يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).
والصبر يحول العدو اللدود إلى صديق حميم، وهو طريق للفوز برضا الله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين يقول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 34-35).
سابعا- تقوية الارتباط بالجماعة:
الصوم يقوي في نفس المسلم الارتباط بالجماعة، ويرسخ في نفسه معنى الاتحاد للتعاون والتناصر؛ فالمسلمون يصومون عند رؤية الهلال، ويفطرون عن رؤيته، ويمسكون عند أذان الفجر ويفطرون عند أذان المغرب، ولسان حالهم يردد مع قول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92).
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).
ثامنا- تنمية احترام الوقت:
والصوم يعود المسلمين على احترام الوقت والنظام؛ فتأخير الإفطار بعد الأذان بفترة طويلة مكروه، والإفطار قبل المغرب يبطل الصيام، كما أن تأخير السحور من السنة ولكن إذا أكل أو شرب الصائم بعد الأذان ولو بوقت يسير فصيامه باطل، فللوقت أهميته، والناس يفطرون في وقت واحد ويمسكون في وقت واحد، ولو أخذ المسلمون من هذه الدروس وعاشوا بها في حياتهم ومعاملاتهم لفاقوا أمما كثيرة من الغرب أو الشرق ننبهر عندما نرى احترامهم للوقت وتقديسهم للنظام، ونحن أولى بهذه الأخلاق منهم لكننا صدق فينا قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها محمول
وأصدق منه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2- 3).
تاسعا- الالتفاف حول القرآن:
وفي شهر رمضان بدء نزول القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185). {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1).
فلا عجب أن يلتف الناس طوال شهر رمضان حول حلق القرآن وأن ترتفع أصواتهم به في البيوت ووسائل المواصلات؛ فهو شهر القرآن، ولا عجب أن يعيشوا معه قراءة في النهار وأن يطيلوا القيام به في الليل، وحبذا لو قرءوا فتدبروا ففهموا وعملوا ولا يكونون كمن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه يقول ألا لعنة الله على الظالمين وهو من الظالمين.
عاشرا- فرص استجابة الدعاء:
وفي شهر رمضان يكون الدعاء مستجابا بإذن الله، وللصائم دعوة مقبولة فليدع بالخير لنفسه وأهله وإخوانه، وليدع بالنصر لهذه الأمة المنكوبة المكلومة، عسى الله أن يقيلها من عثرتها، ويبدل ذلها عزا، وخوفها أمنا، وأن يوحد كلمتها ويهيئ لها قائدا ربانيا يقودها لخيري الدنيا والآخرة، ولا عجب أن يختم الله آيات الصيام بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186).
حادي عشر- إحياء سنة الاعتكاف:
وفي أواخر الشهر يسن الاعتكاف حيث يترك الناس الدنيا وزخرفها وضجيجها وضوضائها، ولهوها وزينتها وينقطعون للعبادة والذكر والقيام والقرآن، وفي هذه الخلوة تتسامى أرواحهم، وتصفو نفسهم وتعلو هممهم، ويستمدون الطاقة من الله حتى يستعينوا بهذا الخير وبهذا الزاد طوال عامهم كما كان حال السلف حيث كانوا يتشوقون ويستعدون لرمضان ستة أشهر وينتفعون به ستة شهر، وبهذا تتحقق التقوى في أتم صورها كما أمر الله تعالى المسلمين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
ومن أراد أن يموت على الإسلام فليعش دائما على الإسلام، وليكن جل دعائه، اللهم أحينا على الإسلام وتوفنا على الإيمان.
ثاني عشر- تعويد النفوس على البذل:
وفي هذا الشهر فرضت زكاة الفطر وهي تختلف في أحكامها عن زكاة المال التي لا يخرجها إلا من كان عنده مال فائض عن حاجته الضرورية وبلغ النصاب وحال عليه الحول، أما هذه الزكاة فتجب على كل من يملك قوت يومه، حتى لو كان فقيرا مستحقا للزكاة، يأخذ الزكاة من الناس ويعطي منها للفقراء حتى يتدرب على البذل والعطاء حتى ولو كان معسرا ويصدق فيه قول الله تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ…} (آل عمران: 134).
وقد فرضت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي السنة التي فرض فيها صيام رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم عن ذل الحاجة والسؤال في يوم العيد.
وفي هذا البذل والعطاء الذي يأخذ هذه الطريقة المنظمة الشاملة العامة لأثر طيب في خُلق الغني وخُلق الفقير فيطهر نفس الغني من الشح والبخل، ويطهر نفس الفقير من الحقد والحسد، يعلم الغني أن المال مال الله وهو مستخلف فيه، ينفق حيث أمر الله ويمسك حيث نهى الله، ويعلم الفقير أن الله لم يتركه هملا ولن يضيع في وسط مجتمع مسلم يعرف حق الله في ماله.
ثالث عشر- التتويج بالفرحة والنصر:
في نهاية هذا الشهر جعله الله عيدا يفرح الناس لأداء هذه الطاعة ولتوفيق الله وهدايته لهم ليعلموا كيف يفرحون ومتى يفرحون، يعرف المسلم أنه يفرح يوم أن يوفق لأداء عبادة من عبادات الله تعالى، ويحزن يوم أن يقترف إثما مما نهى الله عنه، وإذا فرح فرح على مراد الله لا على مراد نفسه {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58). حتى أضحى العيد وكأنه تتويج لهؤلاء الذين نجحوا في الاختبار فحصلوا على الجائزة عند نهاية هذا الشهر العظيم فكانت جائزتهم بداية الطريق للجائزة الكبرى إن شاء الله.