تاريخ النشر الأصلي 2017-12-11 10:54:13.
العدل هو ميزانُ الأرض، والظلمُ والجور ما هما إلا مِعوَلَ هدمٍ وخراب لكلّ دابة تدبّ عليها. وأعظمُ المظاهر العملية للظلم هو العدوان والقهر، وأشنعُ صور العدوان وأغلظُها ما كان فيه سفكُ الدماء والإفساد في الأرض والعلو فيها وجعلُ أهلها شيَعًا، ضعيفهم نهبًا لقويِّهم على صورة صراع أهل الغاب…
إعداد فريق التحرير
العدل من القيم الإنسانية الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، حتى جعل القرآنُ إقامةَ القسط -أي العدل- بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، فقال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد:25)، وليس ثمة تنويه بقيمة القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الله تعالى رُسُله، وإنزاله كتبه؛ فبالعدل أُنْزِلَتِ الكتب، وبُعِثَتِ الرسل، وبالعدل قامت السموات والأرض.
وقد تناولنا في الجزء الأول من المقال.. الحديث عن مفهوم العدل، وحقيقته في الإسلام، وسنتناول في هذا المقال.. أنواع العدل و صوره…
العدل هو ميزانُ الأرض، والظلمُ والجور ما هما إلا مِعوَلَ هدمٍ وخراب لكلّ دابة تدبّ عليها. وأعظمُ المظاهر العملية للظلم هو العدوان والقهر، وأشنعُ صور العدوان وأغلظُها ما كان فيه سفكُ الدماء والإفساد في الأرض والعلو فيها وجعلُ أهلها شيَعًا، ضعيفهم نهبًا لقويِّهم على صورة صراع أهل الغاب.
إن الله -تعالى- جعل نظام الكون قائما على العدل، وجعل استقرار الأرض ومتاعها معلقين بالعدل؛ فحيثما وجد العدل وجد معه الاستقرار ورغد العيش، وحيثما وجد الظلم تبعه الاضطراب واختلال الموارد، ثم فساد العيش.
صور العدل
1- العدل مع الله
2- والعدل مع الناس
3- والعدل مع النفس
أما العدل مع الله
فبألا نصرف شيئاً من حقه إلى عبيده، فمن فعل ذلك وقع في أقبح الظلم، فحق الله علينا أن نفرده بالعبادة.. ثبت في الصحيحين، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: يا معاذَ بنَ جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: (هل تدري ما حق الله على العباد؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا). ثم سار ساعة قال: (يا معاذ بن جبل). قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (أن لا يعذبَهم).
وأما العدل مع النفس
عدالة الإنسان مع نفسه تأتي في المرتبة الثانية بعد عدالته مع ربه سبحانه، والعدالة مع النفس حمايتها دنيا وآخرة من الهلاك، قال سبحانه وهو يطلب من المؤمنين أن يعدلوا مع أنفسهم: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” (البقرة:195)، وقال: “وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” (النساء:29)، فهذا عدل مع النفس.
ومن عدل الله سبحانه الذي فرضه على الإنسان (على نفسه) تحريم الخبائث عليه: “وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ” (الأعراف:157)، وإباحة الطيبات وإعطاء النفس حقها منها قال عليه الصلاة والسلام: (إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً) رواه البخاري، ومسلم.
فلا عدل مع النفس في غير ما جاء به الإسلام، ولذلك لما ظلم الناس أنفسهم إما بارتكاب الحرام أو عدم الالتزام بهدي الإسلام في السلوك والتصور والاعتقاد خرجت البشرية بمعنيين متضادين:
الأول: المادية الجافة التي تسعى وراء الجسد وراحته وشهوته، فقيام الحضارات والاختراعات وسائر التقنيات اليوم كلها لخدمة الجسد فقط.
الثاني: الرهبنة التي أهملت الجسد ودعت إلى أن يكون اهتمام الإنسان بجانب الروح فقط.
والإسلام عدل بين هذا وذاك؛ لأنه في الحقيقة ينظر إلى الإنسان على أنه مخلوق من جسد وروح؛ الروح من الملكوت الأعلى “وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ” (السجدة:9)، ولذلك لا يمكن أن ترتفع وتنمو إلا بشيء من أعلى وهو الوحي.
والجسد مخلوق من الطين في أصله، فلا يقوم نموه إلا على هذه الأمور التي هي من الأرض، وحينما يوجد انفصام بين هذين الأمرين فإنه إما أن يهتم الإنسان بالجسد ويصير مادياً بحتا، وإما أن يهتم بالروح وحدها ويكون من الرهبان الذين مقت الله صنيعهم وجعل حياتهم حياة مبتدعة.
ومما يدلك على عدالة الإسلام مع النفس البشرية أن الله تعالى قدم مصلحة الجسد على ركن من أركان الإسلام، فإن الله أباح الفطر للمسافر حتى لا تجتمع عليه مشقة الصوم ومشقة السفر، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل كله، بل أمر أصحابه أن يقوموا شيئاً ويدعوا شيئاً، ونهاهم عن التبتل وعن اطراد الصيام، بل بين أن للجسد حق وللنفس حق.
إنَّ من العدلِ مع النفس أن تسلك بها سبيلَ نجاتها، ففي الصحيحين، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: “الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ” (الأنعام:82)، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ! إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: “يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ“) متفق عليه. وظلم الإنسان لنفسه بأمرين: بترك الفرائض، وإتيان المحرمات. فإذا كان هذا ظلماً كان حملها على طاعة الله عدلاً.
وأما العدل مع الناس فتحته صور:
أ- العدل بين الأولاد
في صحيحي البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن أباه أتى به رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله : (أفعلت هذا بولدك كلهم)؟ قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله واعدلوا في أولادكم). قال: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة. وفي رواية: (أشهِد غيري فإني لا أشهد على جَور). ولابن حبان: (سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر).
يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: (إني لو قبلت أحدَ الصغار من أولادي لرأيتُ لازمًا عليّ أن أقبل الصغيرَ مثله؛ خوفًا من أن يقعَ في نفس هذا عليّ أذى).
ب- العدل بين الزوجات
قال تعالى: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا” (النساء:3). أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت أيديكم بأن لا تعطوهن مهورهن كغيرهن، فاتركوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن: اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فإن خشيتم ألا تعدلوا بينهن فاكتفوا بواحدة، أو بما عندكم من الإماء.
وفي سنن أبي داود، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ).
وأما العدل المنفي في الآية: “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” (النساء:129)، فالمراد به: الحب.
تقول عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ) رواه أبو داود، وقال: يعني القلب.
ولما سأل عمروٌ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: (عائشة) متفق عليه.
ج- العدل مع الأعداء
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من الأمثلة ما يحير العقول.
فعن أمِّ المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ، والذام، وَاللَّعْنَةُ، والغضب. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود.
د- العدل مع المخالف
لقد ابتُلي الناس في هذا الزمان بفئة ظالمة، لا همَّ لها سوى تتبع الزلات، وتصيُّد العثرات، فمن خالف في مسألة يسوغ الخلاف فيها صار مبتدعاً، فاسقاً، حزبياً، بغيضاً، ضالاً، والله يقول: “سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ” (الزخرف:19)، فهل أعددنا للسؤال جواباً؟ ولا ريب أن رافع هذا اللواء سينال الحُظوة عند مشايخه الذين سلك دربهم ورمى بقوسهم، ولكني أذكره بآية في كتاب الله، “إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا” (مريم:93-95). وعندها يكلمنا الله بدون حجاب ولا ترجمان.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: (عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله. وقال غيرُه: لا يسلم العالم من الخطأ، فمن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو عالم، ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيرا فهو جاهل).
ومما يحمل على العدل مع الغير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) رواه مسلم.
هل الإسلام دين مساواة؟
من الخطأ أن يقال: إن الإسلام دين المساواة! وإنما هو دين العدل؛ فالعدل إعطاء كل ذي حق حقه، أما المساواة المطلقة مع اقتضاء التفرقة بالعدل فإنها ليست من الإسلام في شيء. ولهذا نفيت المساواة في مواطن من القرآن الكريم، قال تعالى: “لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا” (النساء:95،96). وقال: “لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” (الحديد:10).
فالمساوة لا تكون عدلا إلا في حق من انتفت الفروق بينهم.. وفي الحقوق العامة.. فهي قد تكون عدلاً وقد لا تكون، ولذلك كان الصواب أن يقال: الإسلام دين العدل.
______________________________________
المراجع:
- صيد الفوائد
http://www.saaid.net/Doat/mehran/97.htm
- رابطة علماء المسلمين
http://muslimsc.com/site/ourpinsrabitah/382-2016-07-23-13-52-10
- شبكة الألوكة الشرعية