المساجد مغلقة.. اجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة

براء الشعار
إذا أغلقت المساجد فلتكن البيوت قبلتنا

إذا أغلقت المساجد فلتكن البيوت قبلتنا

ما زال يقرع الآذانَ أصواتُ المؤذنين وقد خنقتهم العبرات، وهم ينادون في الناس –للمرة الأولى- “ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في بيوتكم” إيذاناً بإغلاق المساجد ضمن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الجهات المعنية في كثير من البلدان للحد من التلاحم الاجتماعي لوقف انتشار هذا الوباء الذي ضرب أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً، أو على الأقل للتقليل من سرعة انتشاره.

صاحب قرار إغلاق المساجد ردود فعل مختلفة في بعض الدول، كنوع من الاعتراض عليه، ومن ذلك ما رأيناه من رؤية بعض المساجد مغلقة وقد أقيمت صلاة الجماعة خارج المسجد في طريق المارة، ومنها اجتماع المصلين فوق أسطح المنازل لإقامة الجمعة، كما صاحب ذلك احتدام النقاشات عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ما بين مؤيد ومعارض لهذه الإجراءات.

وبطبيعة الحال، لم يكن علماء الأمة ودعاتها –على مستوى الأفراد والمؤسسات- بمعزل عن الناس، فقد كانوا سراعاً في بيان مشروعية هذه القرارات، بل إن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الأخيرة التي عقدت عبر تقنية “ZOOM” التواصلية (1 – 4 شعبان 1441هـ/ 25 – 28 مارس 2020م) خصصها لمناقشة “المستجدّات الفقهيّة لنازلة فيروس كورونا”.

ولا نعلم أحداً من أهل العلم الموثوق بهم اعترض على قرار إغلاق المساجد وغيرها من المنشآت والمؤسسات التي يحدث فيها التلاحم بين المترددين عليها؛ فحفظ النفس البشرية مقصد من أهم المقاصد التي جاءت الشريعة لحفظها وحمايتها، ومع وجود خطر يهدد الأرواح؛ فيقيناً النظر الشرعي يقرر أن حماية الساجد أهم من إعمار المساجد.

ومن الطبيعي أن يكون إغلاق المساجد بقرارات إدارية أمراً مؤلماً لقلوب السامعين، وبخاصة تلك القلوب المعلقة بالمساجد، فالأرواح التي تجد أنسها في عمارة بيوت الله تتقطع أوصالها إذا حيل بينها وبين المساجد، فروحها وراحتها في زيارة الكريم في بيوته بالأرض، ولسان حالهم يقول: كيف يُحالُ بيننا وبين جسر المحبة الذي يبلغنا عفو الله ورضوانه؟! وهذا يفسر لنا سبب البكاء الذي صاحب هذا النداء “ألا صلوا في بيوتكم”، كما يفسر ما قام به البعض من إقامة صلاة الجماعة في الشوارع والطرقات، ولولا حسم الجهات الإدارية في تنفيذ هذه الإجراءات لعادوا!

فالأمر إذن وراءه عاطفة جياشة، وغِيرة على شعائر الدين ومقدساته، وثمة أمر آخر غاية في الأهمية يفسر سبب الانقباض والبكاء عند رؤية المساجد وقد خلت من عُمّارِها، خاصة الحرمين الشريفين، وهو التفسير الانتقامي الذي صاحب ظهور هذا الوباء، بأنه دليل على غضب الله، فعاقبنا بأنه حال بيننا وبين خير البقاع التي تتنزل علينا فيها رحماته، وحرمنا من شهود الجُمَع والجماعات!

ومع تقديرنا واحترامنا لهذه المشاعر، إلا أنه يجب أن نعي أن الأحكام الشرعية وفهم مقاصد التشريع طريقه نصوص الوحي وإعمال العقل في فهمها وتدبرها.

موقف الصحابة من إغلاق المساجد

فالمشهد في الجملة يحمل في طياته قصوراً في تدبر نصوص الوحي وإدراك حكمة التشريع، ومقارنة بسيطة ستوضح للقارئ الكريم الفكرة بجلاء.

هذا النداء “ألا صلوا في رحالكم” الذي يفيد تعطيل الجمعة والجماعة، ليس بدعاً في الدين، ولكنه نداء أُذيع أول مرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: “ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في الرحال”، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة باردة، أو ذات مطر في السفر، أن يقول: «ألا صلوا في رحالكم» (رواه مسلم)، وهذا الحديث يفيد تعطيل الجماعة، وورد ما يفيد تعطيل الجُمعة أيضاً لنفس السبب؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في يوم جُمعة، يوم مطر: «صلوا في رحالكم» (رواه ابن ماجة في سننه)، وعبر التاريخ تكرر هذا النداء كثيراً متى وجدت أسبابه.

وهنا نسأل: كيف استقبل الصحابة هذا النداء؟ وماذا فهموا منه؟ وهل صاحب النداء النحيب والبكاء؟ وهل خالف أحد النداء وأصر على أداء الصلاة في غير بيته أو رحله؟!

والجواب واحد لكل هذه الأسئلة، وهو أنه لم يحدث شيء من ذلك! فما الذي تغير إذاً؟ فيقيناً لسنا بأحرص من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الشعائر وعمارة المساجد، ولا أشد منهم غيرة على الدين وحرماته، فما تفسير بكائنا دونهم؟!

والجواب هو: اختلاف الأفهام في التعامل مع نصوص الوحي، فالسلف الصالح لم يكونوا بحاجة إلى قرارات إدارية للزوم البيوت عند سماع مثل هذا النداء، ولم يستقبلوا النداء بحزن وشجن؛ لخلو بيوت الله من جباه الساجدين؛ لأنهم فهموا أن الله جل في علاه قد رفع الحرج عن هذه الأمة، ولم يشقّ عليها في أداء ما افترضه عليها، وأن هذا الدين يقوم على التيسير على العباد ورفع العنت عنهم، وهذا ما ينطق به القرآن جلياً، فقال جل في علاه: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقال سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج) (المائدة:6)، وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، وفي الحديث المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: “يسّروا ولا تعسّروا” هذا أولاً.

ثانياً: ليس هذا أول وباء ينزل بالأمة، فقد وقع “طاعون عمواس” في عهد عمر بن الخطاب، ومات بسببه خيرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتفسير الوباء على أنه دليل غضب وانتقام من الله يخالف ما تنطق به النصوص الصريحة، ويخالف أيضاً فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني: «أنه عذابٌ يبعثه اللهُ على من يشاء، وأن الله جعله رحمةً للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ، فيمكثُ في بلده صابراً محتسباً، يعلمُ أنه لا يصيبُه إلا ما كتب اللهُ له، إلا كان له مثلُ أجرِ شهيدٍ»، فإذا كان نزول الوباء هو من الله رحمة بالمؤمنين، فكيف يكون إغلاق المساجد بسبب الوباء دليلاً على أنه غضب من الله؟!

استقبال الصحابة للوباء

أما استقبال الصحابة لمثل هذا الوباء فيرويه لنا الإمام أحمد في مسنده فيقول: لَمَّا كان طَاعُون عَمَوَاسَ، واشْتَعَلَ الْوَجَعُ، قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي النَّاسِ خَطِيباً، فَقَالَ: “أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ”، قَالَ: فَطُعِنَ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللهُ، وَاسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيباً بَعْدَهُ فَقَالَ: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذاً يَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقْسِمَ لِآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُ”، قَالَ: فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ، فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ، فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: “مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا”.

والخلاصة إذن أن مَنْ أراد وجه الله، وقصد بابه، فلن يرده الكريم خائباً، فيد الرحمة ممدودة بالليل والنهار لمن عصاه، فكيف بالحريص على طاعته ونيل رضاه؟!

وإذا كان سبحانه وتعالى -وقت الخوف- قد خفف عن أمة لا تقبل صلاتها إلا في البِيَع والكنائس، فكيف بأمة اختصها الله برحمته فجعل لها الأرض مسجداً وطهوراً؟ وهذا مما اختص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نصلي في المساجد والبيوت وحيث أدركتنا الصلاة.

فلما اشتد البلاء ببني إسرائيل وخافوا بطش فرعون وجنوده، جاءهم التخفيف من الله سبحانه وتعالى؛ فأمرهم بالصبر، وأن يصلوا في بيوتهم، فقال سبحانه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87)

وفي تفسير ابن كثير: “عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة، وقال مجاهد: “واجعلوا بيوتكم قبلة” قال: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد، يصلون فيها سراً، وكذا قال قتادة، والضحاك”.

وقال الإمام القرطبي في تفسيره: “إذا كان أُبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيُستدل بذلك على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجُمعة، والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق، والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه، وقد فعل ذلك ابن عمر”.

اقرأ أيضا:

* نقلا عن “المجتمع” (بتصرف يسير).

 

 

مواضيع ذات صلة