تاريخ النشر الأصلي 2018-03-15 04:52:00.
الوفاء بالعهد صفة أساسية في بناء المجتمع المسلم، وقاعدة تقوم عليها حياة الفرد وبناء الجماعة، فإذا فُقد فُقدت الاستقامة والثقة وضعفت الأواصر وتهاوت العلاقات…
(مقتطف من المقال)
سلمان بن يحيى المالكي
الوفاء بالعهد شرفٌ يحمله المسلم على عاتقه وهو قيمة إنسانية وأخلاقية عظمى، بها تُدعم الثقة بين الأفراد، وتؤكد أواصر التعاون في المجتمع، وهو أصل الصدق وعنوان الاستقامة، الوفاء بالعهد خصلة من خصال الأوفياء الصالحين، ومنقبة من مناقب الدعاة المخلصين، وهو أدب رباني حميد، وخلق نبوي كريم، وسلوك إسلامي نبيل، الوفاء بالعهد من شعب الإيمان وخصاله الحميدة، ومن أهم واجبات الدين وخصال المتقين وخلال الراغبين في فضل رب العالمين، فمن أبرم عقداً وجب أن يحترمه، ومن أعطى عهداً وجب أن يلتزمه، لأنه أساس كرامة الإنسان في دنياه، وسعادته في أخراه.
الوفاء بالعهد..
1- من صفات الله جل وعلا فهو أحق أن يُتصف به “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (النور:55).
2- من سمات أهل الإصلاح والإيمان “… وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ …” (البقرة:177).
3- سبيل للوصول إلى أعلى الدرجات والقرب من رب البريات “… وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا” (الفتح:10).
4-من صفات أولي الألباب أهل العقول النيرة بكتاب الله وسنة رسول الله “الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ” (الرعد:20).
5. من صفات الأنبياء والمرسلين “وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ” (النجم:37)، “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا” (مريم:54).
العهود التي بين الله وبين الخلق
1- العهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذمة، العهد الذي بين العبد والرب، فإن الله خلق الإنسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة وأن يعترف بها ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم.
2- مَا أخَذَهُ الله تعالى عَلَى الْبَشَرِ بأنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَا “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ” (آل عمران:81).
3- إيمان الفطرة “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” (الأعراف:171).
4- نشر العلم وتبليغه وبيانه وتبيينه “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ” (آل عمران:187).
5-التزام المسلم بدين الله واتباعه شرعه وسلوكه سنة رسوله فهو من الوفاء، يقول بن عباس رضي الله عنه: كل ما أحل الله وما حرم وما فرض في القرآن؛ فهو عهد.
6- “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة:111).
7- تكفل الله لمن جاهد في سبيله؛ لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته؛ بأن (يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر وغنيمة) رواه مسلم.
العهود التي بين الخلق
1- قيام المسلم بما التزم به من قول أو كتابة تجاه إخوانه المسلمين “… وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا” (الإسراء:34).
2- توكيد اليمين وعدم نقضها “وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا…” (النحل:91).
3. عقد الزواج من العهد (إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري.
4- (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ) رواه أبو داود.
5- الإحسان إلى الأبناء وتربيتهم “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ…” (التحريم:6) ومن أهملهم لم يوف بما عُهد إليه.
6-حفظ حقوق الجار بأن لا تستباح حرمته، ولا ينال من عرضه، ولا يستحل ماله (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) رواه البخاري.
7-إيفاء المسلمين حقوقهم عامة (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) رواه مسلم.
8- احترام العقود والأمر بإنفاذ الشروط التي بين المسلمين (المسلمون عند شروطهم) رواه البخاري.
9- أداء الدين لمستحقيه وعدم المماطلة فيه (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
10- التسويفِ في أداء أُجرةُ الأجراء وحقوقُ العمالِ الضعفاء (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه) رواه البخاري.
11- مَنْ عَاهَدَ غَيْرَهُ مِنَ الْنَّاسِ، وَوَعَدَهُ بِهِبَةٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ بَذْلِ مَعُونَةٍ أوْ زِيَادَةِ أَجْرٍ أوْ مُكَافَأةٍ أوْ إنْجَازِ عَمَلٍ أوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أوْ أدَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَرْعَى عَهْدَهُ وَألاَّ يُخْلِفَ وَعْدَهُ (أربع مَنْ كُنَّ فيه فَهُوَ مُنَافِقٌ خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا ائتُمِنَ خَانَ، وإذا خاصم فجر) رواه أبو داود.
12- جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مات أبي وأمي فهل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) رواه أبو داود.
مواقف تجلى فيها الوفاء بالعهد
1-روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمّي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غِبْتُ عن أوّل قتال قاتلتَ فيه المشركين!! لئن الله أشهدني قتال المشركين لَيَرَيَنَّ الله ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحد وانكشف المسلمون، فقال: اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إليك ممّا صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثمّ تقدّم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنّة وربّ النضر إنّي أجِدُ ريحها دون أُحُد… قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ما بين ضرية بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بالسهم، ووجدناه قد مثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته بشامة ببَنَانِه… رواه البخاري.
2-عن عَوْفُ بنُ مَالِكٍ قال: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَبْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ تِسْعَة ً، فَقَالَ: أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ الله؟ وَكُنّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَة، قُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يا رسول الله، ثم قال: أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ الله؟ قال: فَبَسَطْنَا أَيْدِينَا وقلنا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يا رسول الله، فَعَلَى مَا نُبَايِعُك؟ قال: أنْ تَعْبُدُوا الله وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَتُصَلّوا الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا ـ وأَسَرّ كَلِمَةً خَفِيفَةً ـ ولاَ تَسْأَلوا النّاسَ شَيْئا، فَلَقَدْ رأيت بعض أولئك النّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أحدهم، فَمَا يَسْأَلُ أحَداً يُنَاوِلَهُ إِيّاه) رواه مسلم.
3-عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان).
4-يقول عبدالله بن أبي الحمساء، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بيعة وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت ثم تذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه فقال: (يا فتى، لقد شققت عليّ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك) رواه أبو داود.
وأخيرا..
فإن الوفاء بالعهد صفة أساسية في بناء المجتمع المسلم، وقاعدة تقوم عليها حياة الفرد وبناء الجماعة، فإذا فُقد فُقدت الاستقامة والثقة وضعفت الأواصر وتهاوت العلاقات، وصدق الله “بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ” (آل عمران:76).
___________________________________
المصدر: بتصرف عن صيد الفوائد