تاريخ النشر الأصلي 2017-07-13 10:51:28.
قد يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول ، ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه. وهذا النوع من الخطأ ممكن وقوعه من الرسل، ولكن الله لا يقرّه على الخطأ بل يبيّن لهم وجه الصواب فيه…
الشيخ/ علي الطنطاوي
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على بشريته باستعمال (إنما) وهي تفيد الحصر والقصر، وتنفي عنه ما ينافي البشرية، ثم أكدها مرة ثانية بقوله: (مثلكم).
والرسل بشر يمتازون بالوحي، وقد قال الله تعالى لمحمد: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ…” (الكهف:110).
وهو مثلنا في تكوين جسده، وطبيعة خَلقه، ولكنا لسنا جميعاً لا في خُلُقه، ولا في مزاياه ولا في عظمته، ولو لم يكن (محمد) خاتم الأنبياء، لكان – بلا جدال – أعظم العظماء وبطل الأبطال.
فإذا كان بشراً مثلنا، يجوز عليه ما يجوز علينا، فهل يُخطئ كما نُخطئ؟ والجواب:
1- إن الخطأ إما أن يكون في مجال التبليغ عن الله، وفي بيان الشريعة. وهذا النوع من الخطأ يستحيل وقوعه من الرسل جميعاً، لأن الرسول “وَمَا يَنْطِقُ” إذا بلغ عن الله أو بيّن شريعته “عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” (النجم:3-4).
والله يقول: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ…“(النساء:170).
ويستحيل أن تقع من الرسول (بعد رسالته) معصية، أو يأتي ما يجرح العدالة أو يُخِلّ بالمروءة أو ينافي الكمال، لأن الله جعله قدوة، وأمر المسلمين أن يتأسّوا به، وأن يتبعوه في فعله: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (الأحزاب:21).
وهذه الأسوة ثابتة للرسل جميعًا: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (الممتحنة:6).
وذلك يقتضي العصمة من ارتكاب المعاصي وإتيان النقائص.
نعم.. قد يُخطئ الرسول !
2- وإما أن يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول، ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه. وهذا النوع من الخطأ ممكن وقوعه من الرسل، ولكن الله لا يقرّهم على الخطأ بل يبيّن لهم وجه الصواب فيه، كما وقع من الرسول في قصة الأعمى، وفي قصة أسرى بدر، اجتهد فبيّن الله له أنه لم يصب في اجتهاده.
وقد فكّرت في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم جاءه الأعمى، وقلت لنفسي: لو لم ينزل الله هذه الآيات من (عبس وتولى)، وعرض موقفه على عقلاء الدنيا وساستها وعلمائها، هل كان فيهم أحد يقول بأن في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم ما يُنتقد أم يقرر الجميع أن الذي فعله هو عين الصواب؟.
رجال من كبار القوم يتألّفهم ويحاول أن يكسبهم لنصرة الدعوة، فيأتي واحد من أتباعه يسأله عن مسالة ليست مستعجلة، ولا ينشأ عن تأخيرها ضرر، وهو يستطيع أن يسأل عنها في كل وقت، فيُرجىء جوابه حتى ينتهي مما هو فيه. هل يفعل أحد من الناس غير هذا؟ هل في الدنيا من لا يقول بأن عمل الرسول هو الذي يَرَوْنه الصواب؟
إنه هو الصواب في مقياس المنطق البشري، ولكن لما نزل الوحي بمقياس آخر، تبين أن ميزان الله أقوم من موازين الناس، وأن حكم من خَلَق العقل أصح من حكم العقل، بل هو الحكم القويم، وحكم العقل هنا هو المعوّج المنحرف.
ومثل هذا يقال في موقفه صلى الله عليه وسلم يوم (أسرى بدر)، أي إن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم إنما كان خطأ بالنسبة لحكم الله، ولو لم ينزل الوحي بتخطئته لكان عند أعقل الناس صواباً، فليس في ذلك خطأ (بالمعنى المعروف) وقع من محمد، بوصفه عظيماً من عظماء البشر، بل إن فيه الدليل على أن وحي السماء فوق حكمة الأرض.
3- وإما أن يكون الخطأ في أمر من الأمور الإِدارية والحربية، وهذا أيضاً ممكن وقوعه لأن الرسول بشر، يفكر في هذه الأمور تفكيراً بشرياً، وقد كان الصحابة يسألونه في مثل هذه الأحوال: هل القرار الذي قرره بأمر من الله ووحي، أو باجتهاد منه؟ فإن خبّرهم بأن ليس لديه فيه أمر من الله، وأنه رأي شخصي، عرضوا عليه آراءهم فأخذ بها أو ردّها.
كما وقع في حادثة اختيار المعسكر يوم بدر، إذ قالوا له: (يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والمكيدة؟)، فلما بين لهم أنه رأيه الشخصي، عرضوا عليه رأياً غيره فأخذ به وعدل عن رأيه، ووقع مثل ذلك في حفر الخندق، وفي حادثة الصلح مع غطفان في تلك المعركة.
4- أما الأمور الدنيوية الخالصة، فكان الرسول يتكلم فيها برأيه الشخصي، وقد يخطئ في الأمور الصناعية والزراعية والطبيّة التي لا يعرفها في العادة إلا أهلها، كما أخطأ في مسألة تأبير (أي تلقيح) النخل، وليس في هذا عيب أو نقص، لأنه لا يُطلب من العظيم ولو كان عالماً – ولو كان أكبر علماء الدنيا – أن يعرف كل الذي يعرفه أرباب الصناعات، ورجال الزراعة والتجارة، وسائر المهن.
ومسألة تلقيح النخل مسألة زراعية فرعية، أبدى فيها صلى الله عليه وسلم رأياً عارضاً، لم يُلزمهم به ولم يحملهم عليه، ولم يقل لهم إنه من الدين، وإن الله أوحى به، فلما تبين له خطؤه قال: “أنتم أعرف بأمور دنياكم”.
ولعل الحديث الوارد في الذباب إذا سقط في الإناء من هذا القبيل، والدليل على ذلك أنه لم يقل أحد: إن غمس جناحي الذبابة واجب، وإن مخالفة هذا الأمر – وعدم غمسه – حرام.
________________________________________
المصدر: كتاب/ تعريف عام بدين الإسلام، للشيخ علي الطنطاوي.